الآن ، في هذه اللحظة بالذات ، يكون التلاميذ الأكبر على الطريق الترابي الضيق . متجهين إلى المدرسة ذات الأكواخ الطينية ، وأيديهم في جيوبهم وعيونهم مغبشة بالنوم . يضربون قطع الحجارة التي تعترضهم ، فيتصاعد الغبار إلى رؤوسهم الضائعة ، أحذيتهم المطاطية تصدر اصواتاً مضحكة تشبه أصوات مؤخراتهم الملوثة بالبراز.
الشارع يمتد متعرجا مع امتدادات النهر المتماهل في جريانه ، شجيرات (الغرب) بأوراقها العريضة المزرقة ، تعرش على جانبي النهر . ذكور السلاحف الكبيرة خانسة في ظلال الشجيرات ، السرطانات الصغيرة بمقصاتها البيضاء اختفت في حفائر الجرف ، غير آبهة بوقع الأقدام المتعثرة فوقها . تنسحب غيمة بخار خفيفة عن وجه النهر . وتضيع في غيمة الغبار المتصاعدة من بين اقدام الاولاد .
تتمايل حقائب الأولاد المصنوعة من أكياس (الجنفاص) والمزينة بخيوط ملونة ، تتمنى لو تذهب معهم ، كي تقرص المعلمة خديك ، اذا قرأت لها نشيداً ، أصواتهم الواهنة تختلط ببكاء تلاميذ الصف الأول ، تبصق خلفهم عدة مرات . بنت الجيران البلهاء تدير رأسها , وتحك باستفزاز شعرها المغبر المليء بالقمل ، تلوح لك بمودة فتتجاهل ان ترد عليها . هي اعتادت ان تقابلها بوجه خالٍ من أي تعبير. لا تحبها ، ولا تكرهها ، دائما تبقي مسافة ثابتة بينكما .. مسافة فارغة محشوة بالصمت واللامبالاة . تقول لك : أنت تحب بقرتك الحمراء أكثر مني.
تشعر بأنك غير معني بان تجيبها ، حين كبرت قالوا لك : ان البقرة الحمراء هي التي غذتك بحليبها حتى فطامك . لان الحليب نشف عن صدر أمك او لسبب آخر لا تعرفه . ينطق شرود ملامحك المغبرة بالتراب : طبعاً أحب تلك البقرة فهي تعطيني حليبا وتجعلني امتطي ظهرها ، اما أنت فمجرد بنت منبوذة . ماذا تعطيني؟
تأخذ يدك المتعرقة بين يديها ثم تضمها إلى صدرها: حيث اكبر سأكون أمك.. أليس ذلك جميلا؟
تسحب يدك بعنف : لا ليس جميلا ، انا لدي أم ولا احتاجك .
- لكن هذه المرأة المظلمة ليست أمك ، انها لا تحبك . الا تضربك كل يوم؟
تغمض عينيك وتتخيلها بفمها الواسع ، شفتيها المزرقتين ، ووجهها الطيني وابتسامتها البليدة التي لا تفارقها ، حتى وأنت ترشقها بالحجارة . تمسك بيد طرف ثوبها المرفوع إلى خصرها ، وبيدها الأخرى تضع حقيبتها على رأسها ، تخوض في المياه المخضرة للمبزل.
ترفع صوتها لتسمعك : انظر السمكات الصغيرات يتجمعن حولي آه .. إنهن يدخلن بين ساقي.
تراقبها بصمت وتكف عن رشقها بالحجارة ، كأنك أشفقت عليها
تقول لك : اسمع لا تخبر أحدا بما رأيت . انه سرنا.
اسمع زقزقة العصافير فأتذكر الفخاخ التي نصبتها لاصطياد القبرات . من يتفقدها الآن؟ لا أحد ، أخفيتها تحت طبقة من التراب وتركت حبات الحنطة ظاهرة لإغواء القبرات بالاقتراب منها.
الحجرة معتمة ، وأنا أشعر بخدر في ساقي النحيلتين .. يداي مركونتان على صدري . أتصنع عدم الاهتمام بالعقوبة التي تنتظرني ، لم اخرج الأبقار من مراحها إلى المرعى . صوت رغائها الحزين يتردد في أذني.
أعاند نفسي في النهوض من فراشي . أفكر .. أمي الآن تحمل حزمة من أعواد الرز الجافة لتقدمها للأبقار الجائعة ، ترفض الابقار الأكل في البداية . تدور مرة او مرتين حول المربط ، تهز رسنها ، يائسة من قدومي لاصطحابها إلى جنتها ، حيث العشب الطري اللامع بخضرته ، والتحرر من قيود رسنها ، حبلها على غاربها ، وشيئا فشيئا ينطفأ بريق الترقب من عيونها السوداء الكبيرة.
تتشمم الأعواد اليابسة . ترفع رؤوسها للمرة الأخيرة نحو الباب , تنفث الهواء والمخاط من أنوفها المفلطحة ، ثم تبدأ بالتهام الأعواد في ذهول صامت . من المؤكد انها حاقدة علىّ ، ولو قد رأتني ستبقر بطني بقرونها .. آه لا أظن البقرة الحمراء ستسمح لي بامتطاء ظهرها العريض مرة أخرى.
يزداد صوت الخربشة في سقف الحجرة ، افتح عيني ، فأجدها تتلوى وهي متعلقة بإحدى حنايا السقف ، تفقد توازنها وتسقط على الأرضية الصلدة للحجرة ، تسكن عن الحركة للحظات ، أتوقع انها ماتت ، ستكون خسارة كبيرة ان تموت حيتنا الرمادية.
كنت أراها بين حين وآخر متعلقة بعضادتي الشباك او تخطف قريبا مني لتنسل تحت الأغراض . أمي تقول دائما : لا تؤذوا هذه الحية والا أكلت الجرذان عيوننا.
صحوت في إحدى الليالي مفزوعا ، وأطلقت صرخة مدوية ، شقت ستار السكون الجاثم على الحقول القصية ، كانت ثمة جرذ يحاول قضم إصبعي ، لم تفزعه صرختي . وبالكاد ضربته أمي فهرب , وهو يطلق صريرا كصرير الباب.
منذ ذلك اليوم تصالحت مع هذه الحية الرمادية . تسامحت في وجودها بيننا مقابل ان تخلصنا من الجرذان بعد موسم الحصاد ، تراقبنا بصمت بعيونها الصغيرة ، في بعض الأحيان ، أمي تجلب لها اسماك الخشني النافقة في حقول الرز المغمورة بالماء.
تختفي الحية لأسابيع بعد التهام وجبتها من السمك.
تصدر عن الحية حركة خفيفة . ترفع رأسها وتنظر ناحيتي ، تنسل بهدوء تاركةً خلفها بقعة دم صغيرة.
أعاند نفسي ولا انهض من الفراش . انظر إلى فراش أمي الخالي ورائحة عفنة تفسد الهواء وتثقله . أمد يدي إلى عيني , أردت إزالة الرمص المتجمع في أطرافها ، لكن لا .. ستكتشف أمي إني كنت مستيقظا حين تجد عيني نظيفتين.
ينفتح الباب ، ويسقط ظل أمي على وجهي ، النور يجتاح الحجرة المعتمة أمي تقف وسط الباب المفتوح ، فيما كان النور يسيل من جانبيها إلى الداخل ، نهر رقراق جارف من الضوء . أتصنع الاستغراق في النوم . قلبي يدق بسرعة وأجفاني ترتجف . تمد يدها وتصفعني على رأسي . تغمغم من بين أسنانها المصفرة : فعلتها في الفراش مرة أخرى يا ابن الملعونة.
أوقفتني على قدمي ، ونزعت (دشداشتي) المبلولة إلى الأسفل . ارمق وجهها المتشنج من بين رموشي . فتصرخ بي : افتح عيونك يا ابن القحـ.....
خشيت ان تصفعني مرة أخرى . فتحت عيني ، منكساً رأسي انظر إلى عورتي الذاوية.
تلبسني (دشداشة) ثانية ، وأنا أترنح في وقفتي . تقودني من يدي إلى الخارج ، وتحكم إغلاق رتاج باب الحجرة . تضع يدها تحت مؤخرتي واليد الأخرى خلف ظهري ثم ترفعني إلى صدرها ، أشم من أثوابها رائحة روث البهائم الذي دافته بالماء ، وصنعت منه أقراصا دائرية معتمة الخضرة .
تصل إلى كوخ النار . بابه المنخفض يحتم عليها ان تنحني . قدماي يخطان قرب ركبتيها . تنزلني من حضنها بسرعة ، كما لو انها تريد ان ترميني بالموقد.
بضع جمرات متوقدة ومخبوءة تحت الرماد . يرقد بينها قدر مسودُ الحواف فيه حليب مغلي ، وتطفو على سطحه قشرة صفراء.
انحنت أمي لتخرج من باب الكوخ , فاحتجزت الضوء المنسكب بقامتها الفارعة وعظام كتفيها القاسيين . اتصورها في سري مثل محراث التنور . تزداد نحافةً وسواداً سنة بعد أخرى . يأتي صوت جدتي مهتدجاً مبحوحاً من زاوية الكوخ : إستيقضت يا مدلل أبيه . تحدجني بنظرة مبهمة ، وتسند العجل الصغير ليرضع من ضرع أمه المنتفخ.
تشرأب أعناق الأبقار على صوت جدتي ، تتراجع البقرة الحمراء إلى الخلف ، فتصبح مؤخرتها فوق رأسي . ترفع ذيلها وتطلق تياراّ قوياً من بولها . أسبح في بولها الحار ، وتنطفئ جمرات الموقد ، يمتلأ قدر الحليب بالبول.
أيست من امتصاص قشدة الحليب اللذيذة. أرفس قوائم البقرة الخلفية فلا تتزحزح من مكانها ، وكأن الموضوع لا يعنيها ، كانت مصرة على إطلاق آخر دفعة بول من مثانتها . تهرول جدتي ملوحة بيديها ، وقد نتأت عروق وجهها الزرقاء ، وبان وشم ذقنها الأخضر - وسط الغضون - كريهاً ومرعباً ، تقول: لولا إصرار زوجة أبيك على بقائك لطردتك إلى أخوالك.
اهرب منها مجتازا عتبة الباب . أحدق في وجهها بغضب . اصفق بيدي بترنيمة سريعة ومستفزة ,واردد : (الغراب اخذ منك حلاتك والبومة حماتك...)
أعيد ترديد الكلمات بسرعة أكثر . تركض نحوي كأنها جرادة تقفز فوق عشب كثيف . اقفز مرتين في الهواء زيادة في استفزازها ثم أطلق ساقي للريح ، وأنا اشعر بالخزي من (دشداشتي) المبلولة ببول البقرة . أتوقف عند نخلة الخضرواي القصيرة ، أتسلقها مستعينا بالكرب اليابس . اجلس على إحدى السعفات ، فتحرقني مؤخرتي المحصفة . تنغرز بعض الخوصات المدببة في أردافي . التقط حبات التمر الناضجة ، ثم انفخ الغبار العالق بها ، والتهمها دون ان امسح الدموع المتجمعة في عيني . وفي الأسفل المح كلبتنا ، وقد لبدت بين الفسائل المتشابكة ، كانت منهمكة تلاعب جرائها العمياء ، وتوجهها ببوزها الأسود إلى امطائها الممتلئة بالحليب. |