إن مصطلح " فلم مصري" يطلق عندنا على الحالة الخيالية التي لا يمكن أن تحصل ألا في أحلام المراهقين، وان من ينتظر أن تجري أحداث حياته أو تتحقق أمنياته بطريقة مغرقة بالصدف العجيبة الايجابية وفي ظروف رومانسية بعيدة عن الواقع لطالما اعتبرناه احد المتأثرين بالأفلام المصرية لدرجة الخدر !
ومما لاشك فيه إننا كشعوب عربية متأثرين بصوره عامة وبدرجة كبيرة بالأفلام المصرية، فمصر الدولة العربية الأولى والوحيدة تقريبا التي تمتلك صناعة سينمائية جيدة عمرها اليوم يقارب القرن أو ربما أكثر قليلا قدمت خلاله ألاف الأفلام. وكان للأفلام المصرية جمهورها العربي العريض منذ بدايتها ومازالت السينما المصرية تجتذب هذا الجمهور وخصوصا فئة الشباب برغم انخفاض شعبيتها خلال العقود الأخيرة لأسباب عديدة منها موجة الإسفاف والتهريج التي اعترتها منذ مطلع التسعينيات ..
ويبدو أن اليد الأمريكية – الغربية التي خططت ودبرت ورتبت لاندلاع ثورات ما يسمى بـ " الربيع العربي" من اجل استبدال الأنظمة الدكتاتورية القمعية بأخرى أسوء منها، استغلت هذا التأثر فوضعت خططها تلك بشكل يشبه إلى حد كبير قصة وسيناريو فلم مصري نموذجي، تبدأ قصته بحدث صغير يتطور فجأة ليتحول إلى منعطف يغير حياة بطل الفلم ويقلبها رأسا على عقب، وهذا الحدث في "فلم الربيع العربي" كان حادث بو عزيزي التونسي الذي تطور بسرعة ليتحول إلى ثورة تحقق نجاح إعجازي فتخلع الرئيس التونسي بن علي في أيام معدودة... وكما في الأفلام المصرية حيث يستطيع المشاهد أن يتوقع التطور التالي للإحداث، اتجه الإعلام العربي وبالتالي أنظار الشعوب العربية تجاه مصر تحديدا وكأن التغيير الذي تتعطش له الشعوب لابد أن يحدث بطريقة تساقط أحجار الدومينو، الواحدة تلي الأخرى ( وهذا ما عبر عنه عدد من رسامي الكاريكاتير في تصوريهم للربيع العربي !) وان مصر هي الحجر الثاني الذي يجب أن يسقط لتستمر السلسلة.
وهنا ركز المخرج الأمريكي كل جهوده على الحدث المصري للخروج بـ" فلم "عن ثورة تتابعه بقية الشعوب العربية بترقب وشغف !، فالشعوب العربية بعد مفاجئة تونس السريعة استعادت شحنة المشاعر القوية والحماسية الرافضة للأنظمة الدكتاتورية لكنها لم تتحرر بعد من عقدة الخوف من الأجهزة القمعية لهذه الأنظمة فمصر وليبيا ليستا تونس، لذا لم يكن لدى المواطن العربي تصور واقعي عن تلك الثورة وكيف سيتغلب على خوفه وينضّم نفسه ومن سيقود هذه الثورة ويوجهها ويتكلم باسمها ؟!.. وهنا كان لابد للمخرج الأمريكي أن يسارع بتقديم نسخة حديثة للثورة تتلاءم مع طريقة تفكير العربي المليء بالخوف والتردد والرغبة بثورة سريعة تتحقق بعدها كل أحلام يقظته بدون تعب أو تقديم تضحيات..
وهكذا تحلّقت أنظار الشعوب العربية لأيام تراقب على مدار الساعة تطورات الثورة المصرية المتلفزة، التي لم تخلو من أحداث يومية دراماتيكية ( تزيد التشويق وتمنع الرتابة والملل التي قد تصيب المشاهد) مدروسة ومراقبة لمنع تحولها إلى كارثة برغم الظروف السيئة وكثرة وشراسة الأطراف التي تعارض التغيير وتكيد للبطل لإفشال أحلامه !..، ثم يصل الصراع الدرامي إلى قمته عند نقطة انتظار بيان تنحي الرئيس فتتحلق الإبصار وتستقر كل التلفزيونات في الدول العربية وحتى في العالم على القنوات التي تعرض من "ميدان التحرير" مباشرة، وحُددت ليلة سيلقي الرئيس فيها كلمة موجهه للشعب فانهالت التوقعات بأنه سيكون خطاب التنحي وتحضرت الشعوب العربية للاحتفال لكنه لا يتنحى في تلك الليلة بل يوجل نهاية الفلم يومين آخرين ليأتي قرار التنحي سريعا وبدون خطابات وينتهي الفلم المصري بالنهاية السعيدة المعتادة، وينفض جمهور المشاهدين سعداء ممتلئين بالنشوة ..!
إن فلم الثورة المصرية لم " يصنع" لتسلية الجمهور بل لأهداف اكبر وابعد، منها امتصاص شعور النقمة والحماس الذي تولد لدى الشعوب العربية فمتابعة الثورة تلفزيونيا والتفاعل معها أياما متواصلة حول الثورة من فعل يجب التغلب على كل المخاوف للالتحاق به إلى حدث تلفزيوني سيكون مملا وثقيلا أذا ما أعيد عرضه من أي بلد عربي آخر. ولهذا عندما حان وقت تنفيذ الهدف الحقيقي من ثورات الربيع العربي كانت الشعوب العربية ما تزال في نشوة وخدر الفلم المصري، فاستسهلت بل واستحسنت قرار ضرب ليبيا من قبل الناتو لإسقاط نظام القذافي، فالمطلوب اليوم سقوط سريع للأنظمة الدكتاتورية لا يكلف الشعوب العربية الكثير من الانتظار والتفكير فيما سيأتي بعدها. وهكذا جاء أول سقوط لنظام دكتاتوري عن طريقة المواجهة المسلحة والتدخل الخارجي، سريع نسبيا وبخسائر قليلة وممهدا للحدث الأهم الذي أتى بعده وهو إسقاط النظام السوري باسم الثورة، وكلنا يعرف ما حصل بعد ذلك في سوريا والثمن الباهظ الذي ما يزال يدفعه الشعب السوري ..
بعد أحداث سوريا التي مازلت مستمرة، صار اسم الثورة مرادفا للتدخل العسكري الخارجي والتهجير والاقتتال الطائفي والتدمير الشامل للإنسان والمدن والمصانع والمزارع..الخ. وهذا ما كان يلوح في الأحداث التي شهدها العراق خلال الأشهر الماضية أثناء تظاهرات المدن الشمالية والغربية. ولم يتوقف هذا التهديد إلا بعد أحداث "القصير " السورية والتي حقق فيها الجيش السوري انتصارا على الفصائل الأخرى. لكن القصير ليست المعركة الحاسمة وانتصار الجيش السوري فيها لا يعني استسلام وانسحاب من يقاتله هناك برغم حالة الهدوء النسبي والكمون والصمت الإعلامي العربي الغريب عما يجري في سوريا الذي حصل بعدها.
إن ما يثير الانتباه ويدعو إلى الكثير من القلق في هذه الفترة هو عودة " الفلم المصري " لكن بجزء ثاني، من خلال ثورة الثلاثين من حزيران التي أطاحت مرة أخرى بالرئيس المنتخب بشكل سريع، وتكرر خلالها ما شهدناه في الفلم الأول من امتلاء الساحات واعتصام الجماهير طوال ساعات الليل والنهار يضاف إليه انضمام الجيش والشرطة إلى الجماهير الثائرة هذه المرة..
وعادت الشعوب العربية التي نكبت معظمها بالربيع العربي لتتحلق حول شاشة التلفزيون لمتابعة ميدان التحرير المضاء بشكل جيد والمغطى من جميع جوانبه بالكاميرات !!، وهو أمر استغربته خلال الثورة المصرية الأولى والثانية أيضا ، فما الذي يدعو نظام دكتاتوري قمعي ظالم أفقر الشعب المصري وأذله وحوله إلى عمالة رخيصة لدول الخليج لعقود واسكنه المقابر، ما الذي يدعوه لإضاءة الساحة التي يعتصم فيها الجمهور ليلا والكاميرات تحلق فوق الرؤوس على مدار الساعة ؟؟! أليس من المنطقي والمتوقع أن يقوم مبارك ونظامه بالتعتيم على أخبار الثورة ومنع الجماهير من الخروج على الأقل ليلا من خلال إصدار قرارات منع التجوال وإطفاء الإضاءة أو الكهرباء عن الأماكن التي يعتصم فيها الناس ليلا ؟؟!! الم يكن مثل هذا الإجراء اقرب إلى طبيعة الأنظمة الدكتاتورية القمعية ؟؟! حتى "واقعة الجمل "التي تم الهجوم فيها على المتظاهرين حصلت في وضوح النهار بينما تم استهداف متظاهري البحرين بعيدا عن كاميرات القنوات الفضائية بل وتم هدم ميدان اللؤلؤة لمنع تجمهر الناس فيه مع أن المدافعين عن نظام البحرين نفوا تهمة الدكتاتورية والظلم عن هذا النظام فهل كان مبارك اقل دكتاتورية وقمعا من حاكم البحرين ؟؟!
والأغرب من ذلك خصوصا خلال ثورة الثلاثين من حزيران المصرية، اختفاء لغة التلويح بالحرب الطائفية التي ألقت بظلالها على أحداث سوريا وتظاهرات العراق برغم ما حصل في مصر قبل أيام من قتل طائفي وسحل !!
كل ما سبق يشير بوضوح إلى أن ما يرتب له في مصر ليس إلا الهاء وتخدير للشعوب العربية يمهد ويمنح الوقت لأمريكا وحلفائها من دول الخليج التحضير أو تغيير خططها - بعد نتائج معركة القصير التي قلبت الموازين - لإعادة الانقضاض على سوريا تحديدا وربما العراق بعدها ..ودليل هذه التحضيرات:
- الهدوء النسبي لتظاهرات العراق.
- دعوة السعودية قبل أيام – وأثناء الثورة المصرية –الاتحاد الأوربي إلى رفع الحظر عن تسليح المعارضة السورية (1)، "خاصة على ضوء المستجدات الخطيرة الأخيرة على الساحة السورية " حيث اعتبر سعود الفيصل وزير الخارجية أن الأزمة السورية تشهد مستجدات خطير " تتمثل في مشاركة قوات أجنبية ممثلة في ميليشيات حزب الله وغيرها مدعومة بقوات الحرس الثوري الإيراني وبدعم غير محدود بالسلاح الروسي". (1)، وجاءت قبلها بأيام موافقة أوباما على تسليح المعارضة السورية (2) وهذا التسليح سيحتاج إلى وبعض الوقت والى تعتيم إعلامي عربي ..
- كذلك تنازل أمير قطر عن الحكم لابنه مما يدل على أن الأب لم يعد بالشراسة التي تريدها أمريكا وإسرائيل منه ، وان المرحلة القادمة وما تعدّه أمريكا يحتاج إلى شاب يسارع بتنفيذ ما يطلب منه ، وستثبت الأيام انه أسوء على العرب من الأب بما لا يقاس !!
- كما تم اختيار هذا التوقيت تحديدا للثورة المصرية الثانية لأنه يأتي بعد الانتخابات الإيرانية الأخيرة وهي فترة انتقالية لن يظهر خلالها شكل السياسة التي سينتهجها الرئيس الجديد، لذا من الأفضل استغلالها للتحضير للهجوم القادم لاستباق ما يصدر عن إيران خصوصا أن الغرب – برغم تفاؤله- لا يتوقع سياسة خارجية مختلفة من الرئيس الإيراني الجديد.
لقد تم التضحية بـ"مرسي" الذي مهدت أمريكا لوصوله إلى سدة الرئاسة فرّد لها الجميل بالتأمين على كل المعاهدات المصرية مع إسرائيل وان هذه التضحية ليست الا دليل على المرحلة الحرجة وشراسة المرحلة القادمة ..
لكننا مع هذا لا نستبعد ان يكون رد الفعل المصري الغاضب على بناء سد النهضة الأثيوبي، احد الأسباب التي أطاحت بمرسي بعد أعرب عن قلقه من تأثير السد على حصة مصر من المياه وحذر إثيوبيا من المضي قدما في تنفيذ المشروع مؤكدا أن "جميع الخيارات ستكون مفتوحة" إذا ما تم تهديد مصالح مصر" !، حيث أن إسرائيل تمول منذ سنوات مشاريع سدود على نهر النيل ونهري دجلة والفرات لتصحير الأراضي الزراعية في مصر والعراق وتعطيش سكانها، وان أثيوبيا من ضمن الدول التي تحظى بدعم إسرائيل عدا مؤشرات دعم خليجية " فالإمارات اشترت 200 ألف فدان من إثيوبيا، واشترت السعودية والكويت مئات الآلاف من الأفدنة، وكل هذه التعاقدات التي تقدر بمئات الملايين من الدولارات تعطي مؤشرات قوية على الدعم الخليجي في مناطق حوض نهر النيل، وهذا هو الظاهر فقط، وما خفي كان أعظم" ( 3) وكانت مصر تعتزم منصف الشهر الماضي بدء محادثات فنية وسياسية مع أثيوبيا حول سد النهضة وتأثيراته على مصر .. !! (4)
الجزء الثاني من فلم الثورة المصرية كان ناجحا ومؤثرا في الشعوب العربية كما أريد له، ومازالت نشوة التظاهرات المليونية تدغدغ مشاعر الكثير وستبقى كذلك إلى أن يصدمهم عرض الجزء الثاني من "الربيع العربي" والذي سيكون أسوء وأوسع تأثيرا وتخريبا من جزئه الأول بمراحل..
( 1) الرياض تدعو الأوروبيين إلى بدء رفع الحظر عن تسليح المعارضة السورية ( 30/ 6/ 2013)
http://allnews4arab.blogspot.com/2013/06/blog-post_8909.html
(2) أوباما يوافق علي تسليح المعارضة السورية ( 22/ 6/2013) http://www.al-mowaten.com/news/5742
(3) مصر تتهم إسرائيل بدعم إثيوبيا في بناء سد النهضة http://www.elaph.com/Web/news/2013/5/815420.html
(4) اتفاق مصري إثيوبي على بدء محادثات حول سد النهضة
http://www.alhurra.com/content/egypt-ethiopia-nile-river/225809.html#ixzz2YGrFJUS8