يعتمد نجاح برامج الحوارات في التلفزة على عناصر تبدأ من النواحي البصرية والفنية، ولا تنتهي عند حدود الإعداد، غير أن العنصر الأهم هو المذيع أو مقدم البرنامج الذي تمهد له كل التسهيلات ليبقى وحيداً في مواجهة المشاهدين (سنستخدم هنا صيغة المذكر، لكن المقصود، بالطبع، المذيعان من الجنسين). هذا المذيع الذي يحتل الشاشة يصبح هو سيد الحلقة عند إشارة البدء، فيطبع البرنامج بطابعه، ويمضي به نحو مواقع السجال والمماحكة الحادة، أو يحافظ على الهدوء والروية، فيمر برنامجه، عندئذ، مرور الكرام، خفيفاً كـ «أثر الفراشة».
أتاح برنامج «الاتجاه المعاكس» الشهير مثل هذه المقارنة، ففي الحلقة قبل الأخيرة، ولأسباب نجهلها، حلّ المذيع الحبيب الغريبي مكان فيصل القاسم. كانت الحلقة تدور حول الملف السوري، كما الحال بالنسبة إلى غالبية حلقات هذا البرنامج. ولكن، على رغم حساسية الموضوع وخطورته، عجز الغريبي عن زج ضيفيه في ساحة «حلبة فضائية» حيث اللكمات اللفظية تأتي على نحو غير متوقع. لم نسمع صراخاً في هذه الحلقة، ولم يهدد أحد الضيفين خصمه، بل بقيا وديعين، وسارت الحلقة بهدوء لم نعتده، وكأنها تدور حول السياحة في إسبانيا أو حول تنسيق الزهور في اليابان... لا عن موضوع متداخل ومعقد يستدعي «شحذ الهمم» لمنازلة الخصم بكل السبل الممكنة.
في الحلقة التالية، الأخيرة عاد فيصل القاسم إلى برنامجه الذي تمحور، مجدداً، حول الملف السوري. لكنّ هدوء الحلقة السابقة تبخر، إذ تحول البرنامج، مرة أخرى، إلى «ساحة للوغى» تكسرت فيها «النصال على النصال»، وتبودلت الاتهامات وعلا صوت الضيوف، ولحسن الحظ أن أحد الضيفين كان في الاستوديو والآخر أطل عبر الأقمار الاصطناعية على بعد آلاف الكيلومترات، ما حال دون مشاجرة بالأيدي، أصبحت مألوفة.
نسوق هذه المقارنة بين الحلقتين لنشير إلى أن طبيعة مقدم البرنامج هي التي تحدد، غالباً، طبيعة البرنامج، فهو الذي يعرف كيف يستفز الضيف، ومتى يتدخل، وكيف يختار العبارات والجمل الدافعة الى الغضب، وكيف يحرّض أحدهما على الآخر... المذيع الذي يمتلك هذه القدرات أو المهارات لا يكتفي بطرح الأسئلة البريئة، بل ينتزع الاعترافات والأسرار ويسبر النوايا ثم يضعها على طبق من ذهب أمام الضيف الآخر الذي يبحث في قاموسه الثقافي والسياسي كي يتأهب للانقضاض على خصمه المشاغب والمتمادي. تلك هي اللعبة التي ينجح فيها بعض المذيعين، بينما يفشل آخرون. ومثل هذا التحريض ينطبق، بالدرجة الأولى، على البرامج السياسية، فالسياسة في العالم العربي لا تحتاج سوى إلى شرارة بسيطة كي يشتعل الاستوديو صخباً وضجيجاً، ولعل القاسم وقلائل مثله يستطيعون إشعال تلك الشرارة، لكنّ آخرين لا يأبهون بذلك، فتمضي برامجهم في جو من الود والتصالح وفي اتجاه واحد.
جريدة الحياة |