تفاقمت الامور ولابد ان يظهر بعض ما في صدري.
كانت زوجة عمي معلمتي الأولى في الحياة قبل المدرسة حيث جئت لها صغيرة في عمر السنتين لأسباب عائلية. وكانت زوجة عمي مسيحية متشددة تحافظ على الصلوات والتسبيحات والمناولة وتواضب بالحضور على القداس، وكانت تعتكف امام صليبها بضع ساعات يوميا . مع ان زوجها كان خمّارا يبيع الخمر في محل يقع في مدينة مسلمة برمتها . في حماية نظام دموي حوّل العراق إلى حانة . إلا أني كنت اتوسم فيها خيرا كثيرا كانت امرأة صالحة بحق لم يخالط الكذب لسانها.
دأبت زوجة عمي على تعليمي الكتاب المقدس وتحفظني يوميا بضع اسطر منه ولما بلغت السادسة من العمر كنت اختم العهد الجديد بكامله ((الانجيل)) فنذرت زوجة عمي نذرا إن أنا اكملت الكتاب المقدس كله تعطي زوجها ثمن عشرة قناني خمر ((زحلة)) لكي يوزعه على فقراء المسلمين مجانا. طبعا من وجهة نظرها ان الخمر حلال وانها مقدسة لأن الخمر كان اولى معجزات الرب يسوع حيث صنع الخمر من الماء ووزعه مجانا.
وفعلا لم اكمل العاشرة من عمري إلا وكنت احفظ الانجيل كله ، وثلاث ارباع التوراة العهد القديم. وعندما كنا نذهب للقداس في الكنيسة في بغداد كانت زوجة عمي تتفاخر كثيرا بإنجازها حيث تستعرضني امام القساوسة لأقرأ لهم الكثير من الفقرات المقدسة على ظهر الغيب .فكنت موضع اهتمام ((ابونا)) حيث كان يغدق علي عطاياه وهداياه لكوني بنت معجزة ولربما سوف اكون قديسة يوما ما ولكنه قال لي يوما : انك ((كهنوتية متمردة)) ولم اكن افهم كلامه يومها لصغر سني .
ولكن الذي حدث لا يمكن تصديقه بسهولة ، ولكنه حدث ((لإيزابيل)).
كنت يوما عند صديقتي المسلمة في بيتها . اجلس وسط اهلها فقالت لي صديقتي يوما : لماذا لا تقرئي القرآن يا إيزابيل فصوتك جميل حيث ــ كانت تسمعني اقرأ ترتيلا من مزامير داود بصوت جميل حزين ــ
ارجوك اقرئي لنا شيئا منه ثم جلبت القرآن ووضعته في حجري ، فقلت وبسرور نعم سأقرأ .ولم أكن اعرف يومها طريقة تجويد القرآن. وفتحت القرآن المقدس على اول صفحة وكانت سورة الفاتحة. فقراتها بصوت جميل هادئ جدا انتزع صوتي الطفولي دمعة من والد صديقتي وناحت امها في الغرفة وترقرقت دمعة في عين ((زينب)) صديقتي. لقد قرأت الفاتحة على طريقة المزامير الجميلة بهيهفونها الرائع الذي تعودت عليه كلما اقرا في القداس على أنغام الارغن الجميل، ولما اتممت الفاتحة كلها ، حدث اضطراب وحركة في عقلي لا أدري بالضبط ماهو ولكنه يشبه سحب السلسلة على لوح نحاسي وكأن عقلي يُريد أن يُغادرني ..
ولكن من يومها لم اعد اذكر ولا حرفا من الكتاب المقدس لقد تبخر ما حفظته خلال (12) عاما في ثواني معدودة.
وفي يوم الاحد وكالعادة ذهبت إلى بغداد برفقة العائلة وكنت محرجة للغاية وحاولت جاهدة ان اتذكر حرفا واحدا من الكتاب المقدس ولكن بلا فائدة . فتعجب الحضور وتعجب ((أبونا)) ثم سألني فيما بعد : ماذا جرى لك ؟ لقد احضرت لك هدية جميلة . قلت له لا أدري . فقال : انك لا تكذبين . فأخبرته بما حدث لي في بيت صديقتي. فجلس (أبونا) على الأرض واجهش بالبكاء ثم أخذ يتمسح بثيابي.وأنا حائرة مما يجري . ومن يومها لم اره في الكنيسة ، لقد اختفى (( ابونا)).
إيزو صادقة فيما تقول .
1- كلمة ابونا نطلقها على القس في الكنيسة . فهو بمثابة الأب ، والراعي .