اعلن رنين جرس المدرسة انتهاء وقت الدرس فغادرت غرفة الصف الخامس الابتدائي بعد ان ودعت طالباته، وما ان نزلت الدرجات التي تؤدي الى الطابق الارضي للمدرسة حتى لحقت بي طالبة من ذات الصف الذي غادرته تواً وراحت تناديني لأتوقف ففعلت ، فقالت لي بعد بعض التردد :
ست..ست هل رأيت البنت التي كانت تجلس بجانبي في الصف ؟ كانت تريد ان تتكلم معكِ لكنها تستحي.... لقد طلبت مني ان اخبرك بانها احبت كلامك وتمنت لو انكِ كنت امها ..
كنت قد شعرت باعجاب الطالبات وتفاعلهن مع مادة المحاضرة التي القيتها عليهن، وطلبت مني اكثر من طالبة من صفوف ومراحل مختلفة ان اقدم لهن محاضرات اخرى في مواضيع ثقافية شتى لكني لم اتوقع او اتمنى ان اسمع عبارة اعجاب بهذا الشكل، لذا طلبت من صديقة تلك الطالبة ان تناديها لاتكلم معها وافهمها انها تستطيع ان تعجب وتقتدي بمعلمتها لكن امها ستبقى الافضل والاقرب لها بكل تأكيد..
حصلت هذه الحادثة الصغيرة اثناء تنفيذنا ( منظمة طموح للتنمية الاجتماعية ) لبرنامج مكتبتي تكبر معي" وهو عبارة عن محاضرات تتمحور حول أهمية القراءة والمطالعة الخارجية ، تهدف إلى رفع مستوى الوعي الثقافي لطلاب المدارس من عمر عشر سنوات فما فوق ومن كلا الجنسين، يرافقها توزيع كراسات ومطبوعات ثقافية على الطلبة تناسب أعمارهم.
وتركز محاضرات البرنامج على تعريف الطفل بأهمية ودور القراءة الخارجية في توسيع إدراكه وزيادة معلوماته العامة ، وان لا يكتفي بالكتب المنهجية لاستحصال المعلومات . كما تتضمن توعية حول الطرق الصحيحة للقراءة وكيفية تحسين مستوى القراءة والتحول إلى القراءة السريعة والممنهجة، إضافة إلى إرشاد الطلاب إلى الطرق الصحيحة لاختيار ما يلائمهم من كتب ومطبوعات وكيفية الحفاظ عليها وتجميعها لتكوين مكتبة صغيرة خاصة بهم. وقد تم تنفيذ البرنامج في 12 مدرسة تابعة لمديرية تربية الكرخ الثانية .
وتم التركيز في القاء المحاضرات على اسلوب المحاورة وطرح الاسئلة وتشجيع الطلاب على طرح افكارهم وارائهم، ومن خلال ذلك تبين لنا مقدار الاهمال المؤلم الذي يعيشه الطفل والطالب العراقي، فنظام التربية والتعليم في العراق برمج دماغه على تلقي معلومات ثابتة ومحددة دون ادنى تشجيع للطالب على توسيع معلوماته، فهو يقرأ لكي ينجح فقط واي رغبة في القراءة يجب ان توجه لقراءة الكتب المنهجية واسئلة الامتحانات وما يحدده المعلم من صفحات او مادة للقراءة. اما الاساليب والمواضيع التي تحفزه على التفكير وزيادة معلوماته وطرح ما يدور في رأسه من اسئلة وتشجعه على التحاور فهي غير موجودة بالمرة ..!
ولهذاوجدنا طلابا وطالبات في الصفوف المنتهية للمرحلة الابتدائية وفي المتوسطة لا يعرفون ابسط مصطلحات لغتهم العربية برغم كونهم جيدين او متفوقين في دراستهم.. اعداد كبيرة من الطلاب والطالبات هم جزء صغير من جيل كامل، انهوا المرحلة الابتدائية ولما يقرأوا كراسا او مجلة صغيرة خارج كتبهم المدرسية والمنهجية، فما المستقبل الذي نتوقعه للثقافة والمثقف العراقي في ظل هذا الوضع المتفاقم ؟!
ان تجربة برنامج " مكتبتي تكبر معي" بينت لنا الكثير من الملاحظات حول الوضع التربوي والثقافي في المدارس العراقية منها:
1- ان الطفل والطالب العراقي يعاني من الاهمال النفسي والمعنوي والاجتماعي بشكل كبير خصوصا في بيئتة المدرسية ، حيث يتم تقييمه فقط من خلال مستواه العلمي والدراسي فاذا كان ضعيفا او خاملا تم اهماله او تقريعه باستمرار حتى يتحول الى الطالب الكسول المشاكس او الكسول المنزوي. وفي كلا الحالتين لن ينظر الى اي موهبة او اهتمام اخر يمكن ان يبرع فيه وهو ايضا سيفقد بمرور الوقت مواهبه واهتماماته .
2- ان المعلمين والمدرسين من كلا الجنسين، غير مؤهلين او قادرين على مد الطالب باوليات الثقافة التي تدفعه لاحقا لاستحصال الثقافة . لاسباب عديدة منها ان المعلم والمدرس نفسه غير مثقف اوغير مهتم بالثقافة او التأسيس لها عند الطالب، او ان النظام التعليمي الحالي -الذي يشمل المدرسة والمعلم وحتى عائلة الطالب - يركز على المادة العلمية والمنهجية وسبل النجاح فيها والعبور الى الصف او المرحلة التالية فقط . وهذا اضعف عند المعلم والمدرس اي اتجاه نحو الثقافة وتطوير مواهب واهتمامات الطلاب الاخرى.
3- غياب شبه كامل لكافة النشاطات المدرسية التي تحرك مخيلة الطفل وتكشف عن مواهبه وتمهد للثقافة عنده. وحتى ان وجدت فالاهتمام بها ضعيف وسطحي وتقدم من قبل مدرسين غير مؤهلين.
4- الدور التربوي للمعلم اصبح يقتصر في الغالب على جعل الطالب يخاف معلمه ويخشى عقوبته. فلم يعد المعلم مؤثرا بحيث يمثل القدوة الذي يثير اعجاب طلابه فيقتدون به ، او المحفز الذي يدفعهم لاستكشاف اهتمامات ثقافية ،ادبية وعلمية مختلفة.
ما ريناه كان نموذجا لاعداد كبيرة جدا من المدارس التي تضم مئات الطلاب والطالبات، تلتمع عيونهم بالنشاط والحيوية ، واستجابتهم وتلهفهم لتلقف كل ما هو جديد تثير الاعجاب والحماس لكنهم مع ذلك مهملين لا يحضون باهتمام يليق بجيل يعد لمستقبل مازلنا نرجوه !. ومما لا شك فيه اننا لن نحصل من استمرار الوضع التعليمي والتربوي والثقافي الحالي الا على تكرار للجيل الذي نشأ وترعرع خلال سنوات الحصار في التسعينات وما تلاها وعلى ندرة اكثر في اعداد المثقفين.
لا شك ان للاحداث السياسية والاقتصادية والتغيرات الاجتماعية التي مر بها العراق خلال العقود والسنوات الماضية، دور كبير واساسي في تدهور وحتى انقطاع استمرارية التأسيس للثقافة عند الاجيال المتلاحقة، سببها غياب المعلم المثقف والمثقف عموما عن المدارس والمشهد العراقي برمته بسبب الحروب المتلاحقة وانشغاله لاحقاً بهموم المعيشة. لكن التحسن النسبي في الاوضاع السياسية والامنية ودخول التطورات التكنولوجية والحاسوب لم تشجع المثقف على العودة لمواصلة التأسيس للثقافة عند جيل الاطفال والشباب.
فقد استمرأ المثقف العراقي العزلة التي فرضها عليه النظام السياسي خلال حكم البعث واستمر بها تحت ذرائع وحجج مختلفة، برغم تذمره وشكواه المستمرة منها. فهو اليوم يتنظر من الحكومة ومسؤولي الدولة والسياسيين ان يبادروا لدعوته الى اخذ دوره في التأثير في الواقع الثقافي والتربوي وهو ما لم يفعله المثقفون الذي اسسوا للثقافة عند الاجيال السابقة . كما ان الشواهد تثبت لنا كل يوم ان اخر ما يريده صناع السياسة في العراق هو ان يكون للمثقف دور وتأثير على الشارع وعلى جيل الشباب !
قد يمتلك المثقف العراقي رؤية وتشخيص دقيق لحجم واسباب تدهور الثقافة في العراق اليوم، وقد يمتلك تصورات عن الخطط والخطوات التي يجب اتخاذها لايقاف هذا التدهور والعودة للارتقاء بواقع الثقافة في المجتمع العراقي. لكن فكرة ان يكون هو المخطط والمبادر والساعي والمتطوع لاحداث التغييرات المطلوبة في الاماكن والمؤسسات ومع الجهات المناسبة، غير واردة ضمن رؤيته للحل وسبل تطبيقه..
لذا صار من الواضح اليوم ان المثقفين العراقيين يعيشون في عالم خاص بهم وفي ابراج عالية تعزلهم عن المجتمع، لكنها لا تمنعهم من التفرج على مشاكله عن بعد وانتقادها او حتى الاشمئزاز منها وانتقاد اسبابها ومسببيها والتذمر من عدم حلها وتفاقمها، غير متناسين التحسر احيانا على ازمنة الثقافة والمثقفين التي ولت..
ومن مظاهر هذه العزلة، تكتل المثقفين باتجاهاتهم الثقافية المختلفة في تجمعات ومؤسسات ومنتديات ومواقع انترنيت، راحوا يؤسسونها ليستعرضوا فيها افكارهم ونتاجاتهم الفكرية والثقافية ، يقرأون لبعضهم ويتحاورون بينهم حولها، ويقيمون فيها مناسباتهم الثقافية التي تنتهي احيانا بتكريم وتهنئة بعضهم البعض. دون ان يؤرقهم بقاء الواقع الثقافي العراقي على حاله وازدياد العزلة بينهم وبين فئة كبيرة من المجتمع لم تحض بفرص التعليم والثقافة لاسباب باتت معروفة. واقرب مثال يمكن ان نستحضره للدلالة على عزلة المثقفين وعدم تأثيرهم، التكتل والتأجيج الطائفي الذي استشرى بشدة في المجتمع العراق خلال السنوات الماضية وحتى الان وبات يهدد وحدة العراق. فعلاج هذه الظاهرة لن يحصل دون نشر ثقافة التعايش السلمي، وهي مهمة المثقفين اولا لكننا لم نشهد لهم حتى الان دور وتحرك حقيقي لفعل ذلك..
ان مظاهر تدهور الثقافة والتحضر لم تقتصر على الشارع العراقي بل وصلت الى المؤسسات الرسمية والتشريعية وقد شهدنا اكثر من مرة وخلال فترات متقاربة لجوء شخصيات سياسية ورسمية الى اساليب غير حضارية في التعامل مع بعضهم او مع الناس. ولم يكن رد فعل المثقفين على كل ذلك اكثر من التعبير عن الرفض والتنديد والامتعاض احيانا، دون ان ادنى مبادرة فردية كانت او من قبل المؤسسات الثقافية التي ينتمون لها ويرعونها لبحث هذه الظواهر بشكل جدي ومناقشتها وتأثيرها على المجتمع العراقي وواقع الثقافة ، والمبادرة برسم خارطة طريق لاعادة الثقافة بكل مفاهيمها الى المجتمع العراقي تتضمن استهداف مواقع الخلل على اي مستواً كانت، وان يكون المثقف والمؤسسات الثقافية حاضرة ومؤثرة في الشارع وبين الناس وحتى في دوائر الدولة والمؤسسات المعنية بالتربية والتعليم والشأن الثقافي والتربوي عموما.
ان تغيير واقع الثقافة في العراق لن يتم من خلال انتقاد مؤسسات الدولة ووزارتها المعنية عند بعد. وان ايقاف تدهور الثقافة وتفشي الامية الثقافية في المجتمع العراقي لن يحصل ان استمر المثقف بعزلته واكتفى بتقديم ما عنده لطبقة المثقفين فقط ..
ان تأسيس وانتماء المثقفين للمؤسسات الثقافية هي خطوة جيدة يفترض بها ان تسهل مهمة وصول المثقف الى كافة شرائح المجتمع، بشكل مباشر ومكثف او عبر وسائط مختلفة مثل المدارس والمؤسسات التعليمية وحتى القنوات الفضائية العراقية وما اكثرها واقل البرامج الثقافية والمثقفين فيها.
ولأن المؤسسات الثقافية هي من مؤسسات المجتمع المدني التي تسعى لتحقيق اهداف محددة لذا يفترض ان تكون هي المبادرة لايصال رسالتها، لكننا لا نرى اي بصمة لهذه المؤسسات عدا تنظيمها لاحتفالات ومهرجانات توزيع الجوائز والدروع والشهادات التقديرية على الادباء والمثقفين والراعين لهذه الاحتفالات !
فهل يستنكف القائمون على هذه المؤسسات واعضائها ان يتجهوا بانفسهم الى المدارس والمعاهد والجامعات ليقدموا لطلابها ندوات ومحاضرات وورش في شؤون ثقافية متنوعة، او الى القنوات الفضائية فيعرضون مدها بمواد لبرامج ثقافية وتربوية ؟؟!
ان ما دعاني للكتابة حول الوضع الثقافي ودور المثقفين في العراق ما قرأته قبل ايام عن اشتراك عدد منهم في الاعداد لمهرجان "بغداد عاصمة الثقافة" الذي سينطلق بعد ايام قليلة كما سيشارك عدد كبير منهم في هذا الاحتفال ... فهل سيكونون فرحين حقاً ومرتاحي الضمير ومقتنعين بأن عاصمتهم تستحق هذا اللقب ...؟؟!