بسم الله الرحمن الرحيم
مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ{75}
تضمنت الاية الكريمة تعريفين :
1) المسيح (ع) : ( مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ) , ويلحق به ( كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ ) .
2) مريم (ع) : ( وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ ) .
وتضمنت ايضا لفت النظر الى موردين :
1) ( انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ) .
2) ( ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) .
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{76}
تضمنت الاية الكريمة استفهام استنكار , تأمر الرسول الكريم محمد (ص واله) ان يوجهه الى اهل الكتاب وعامة الناس , جاء فيه , وصفا موجزا لكل الالهة التي يتخذها البشر من دون الله تعالى , في نقطتين :
1- ( مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً ) .
2- ( وَلاَ نَفْعاً ) .
بالتأكيد , الضر والنفع لا يمكن ان يكون , الا بأذنه عز وجل .
الملفت للنظر , اختتام الاية الكريمة بــ ( وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) , الله عز وجل لا يسمع بواسطة الجارحة , بل يسمع بالنحو الذي يليق بجلاله , ويعلم بشؤون خلقه .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ{77}
تخبر الاية الكريمة الرسول الكريم محمد (ص واله) , ان يخبر اهل الكتاب بأمرين , على نحو النصح والارشاد والتحذير :
1) ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ) : يتوجب على اليهود ان لا يتجاوزا الحد في تأليه عزيرا (ع) , ويتوجب على النصارى ان لا يتجاوزا الحد بتأليه عيسى (ع) , اما اذا كان الغلو لا يخالف الحق والحقيقة , فلا بأس .
2) ( وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ ) : ثم ذكرت الاية الكريمة مواصفات هؤلاء القوم انهم :
أ) ( قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ ) .
ب) ( وَأَضَلُّواْ كَثِيراً ) .
ت) ( وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ) .
لم تحدد الاية الكريمة هؤلاء القوم , فيرى السيوطي في تفسيره ( الجلالين ) , انهم اسلافهم ( اهل الكتاب ) .
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ{78}
تذكر الاية الكريمة نوعين من اللعن صدرا بحق بني اسرائيل , ثم ذكرت سببين لذلك اللعن , فأما أللعنين :
1) ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ ) : يروي السيوطي في تفسيره الجلالين ان داود (ع) ( دعا عليهم فمسخوا قردة وهم أصحاب أيلة ) .
2) ( وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) : كما ولعنهم عيسى (ع) , ويروي السيوطي ايضا في نفس المصدر ( بأن دعا عليهم فمسخوا خنازير وهم أصحاب المائدة ) .
يلاحظ في النص المبارك , امرين جديرين بالتأمل , والوقوف عندهما :
1- صدور اللعن ( عَلَى لِسَانِ ) , يستفاد من تفسير الجلالين , انه الدعاء عليهم .
2- في ايات الكريمة السابقة , ورد ( الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) , اما في الاية الكريمة فجاء فيها ( عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) , لابد ان يكون لذلك حكم ومعاني , يجب على المتأمل ان يبحث عنها وفيها ! .
اما اسباب اللعن :
1) ( ذَلِكَ بِمَا عَصَوا ) .
2) ( وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ) .
ينبغي الاشارة الى ان اللعن الحاصل في بني اسرائيل , لا يشملهم جميعا , بل يشمل العاصين والمعتدين فقط , اما من اتبع الرسل والانبياء (ع) , فبعيد عنهم .
كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ{79} تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ{80}
ذكرت الاية الكريمة السابقة سببين لوقوع اللعن على بني اسرائيل , فذكرت الايتين الكريمتين سببين اخرين , مع توبيخ وتعنيف بحقهم :
1) ( كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَر فَعَلُوهُ ) : لو تأملنا في النص المبارك , نجد ان فيه معصيتين لا واحدة :
أ) كانوا يرتكبون المنكر .
ب) لا ينهي بعضهم البعض عن تلك المنكرات .
اما التوبيخ الذ استحقوه بجدارة ( لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) ! .
2) ( تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ) : كان كثير من اليهود يتولون مشركي مكة , بغضا ومعاداة لرسول الله (ص واله) , فكانت حصتهم من التوبيخ والوعيد ( مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ ) , ويلحق به امرين :
أ) ( أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ) .
ب) ( وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ) .
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ{81}
طرحت الاية الكريمة , ما يجب ان يؤمن به هؤلاء اليهود :
1) ( يُؤْمِنُونَ بِالله ) .
2) ( والنَّبِيِّ ) .
3) ( وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ ) .
عند ذلك ( مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء ) , لكن المشكلة كبيرة جدا ( وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ) , خارجين عن الايمان جملة وتفصيلا .
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ{82}
مما يروى في سبب نزول الاية الكريمة , انها نزلت بحق وفد النجاشي القادمين من الحبشة ( تفسير الجلالين للسيوطي ) , اما علي عاشور العاملي في مصحفه , فيرى انها نزلت بحق وفد النجاشي , لكنه يلحق بها الايات الكريمة ( 83 – 84 – 85 – 86 ) .
جاء في الاية الكريمة امرين جديرين بالتأمل :
1) العداوة : ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ ) .
2) المودة : ( مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ) , ثم تذكر ثلاثة اسباب للمودة :
أ) ( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ) : علماء , وهي مرتبة من المراتب عند النصارى .
ب) ( وَرُهْبَاناً ) : عبادا , زهادا , والرهبانية الغلو في التعبد .
ت) ( وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ) : لا يستكبرون عن اتباع الحق , كما هو الحال عند اليهود ومشركي مكة .
وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ{83}
تذكر الاية الكريمة , ابرز خصال ومواصفات وعلاماتهم , انهم ( وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ) , مما يدل على صدق معرفتهم ( مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ ) , عندها يتوجهون بالتضرع الى الباري عز وجل ( يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) .
وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ{84}
تروي الاية الكريمة على لسانهم , ما اجابوا به لائميهم بثلاثة نقاط :
1- ( وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ ) .
2- ( وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ ) .
3- ( وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ) .
فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ{85}
تروي الاية الكريمة , ان الله عز وجل منّ عليهم بامرين :
1- ( فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ) .
2- ( وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ) : ان جعلهم عز وجل في ( المحسنين ) .
الملاحظ في الاية الكريمة وسابقتها , ان هؤلاء القوم كانوا يطمعون ان يدخلهم عز وجل مع القوم الصالحين ( وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ) , للمؤمن ان يطمع ان يدخله عز وجل في أي قوم يشاء , لكن القرار بيده وحده جل وعلا , فكان ( وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ) , للمتأمل ان يتأمل الفرق بين ( الصالحين ) و ( المحسنين ) ! .
|