كلما برزت أزمة بين الإقليم والمركز يتداعى الكثير من نواب الأزمة التابعين للكتلة الحاكمة في بغداد يطالبون بتخفيض هذه النسبة (17%) إلى (12%) ،بحجة أن النسبة الأولى أكثر مما يستحق الإقليم نسبة إلى سكانه متباكين على سكان الجنوب والوسط ،وكأن الأمر سيتغير إلى أحسن حال لو خفضت النسبة المخصصة للمركز ،وهنا أنا لا أكون مع أو ضد النسبة،بقدر ما أتساءل أولا حول إقراره والموافقة عليه دون الالتفات إلى تداعياته المستقبلية ،والتي يتحتم على السياسي أن يقرأ ويستنتج ما تثمر عن قراراته واتفاقياته والتداعيات الناتجة عنها ،فهل التفت السياسيون الذين أقروا هذه النسبة ووافقوا عليها إلى ما ستؤول إليه الأمور بين الإقليم وبين المركز ،لاسيما في ظل ظرف يعيشه العراق ،ولماذا أقروا هذا الأمر دستوريا،الدستور الذي احتفلوا بإقراره،واتهموا كثيرا من أبدى بعض الملاحظات عليه.والسؤال الجوهري الذي كان عنوانا لموضوعنا هذا ،هل قرار 17% للشمال العراقي (إقليم كردستان العراق) كان من الخيارات العراقية المحضة دون أن يكون للمحتل فيه أثر ،وأنا هنا لا أعطي تحليلا بقدر ما أستعين بأحد خبراء الأمم المتحدة الذين عملوا في العراق إبان الحصار في تسعينيات القرن العشرين هو الدكتور هانز كريستوف فون سبونيك الألماني الجنسية والذي أدار شؤون الإعانات الإنسانية التابع للأمم المتحدة ومن واجباته تنفيذ برنامج النفط مقابل الغذاء والذي أصدر كتابا مهما وقيما صدر مترجما من قبل حسن حسن وعمر الأيوبي وهو من إصدارات مركز دراسات الوحدة العربية وكان بعنوان (تشريح العراق عقوبات التدمير الشامل التي سبقت الغزو ) والذي يبين فيه أن أحد تقارير الأمين العام للأمم المتحدة يظهر بجلاء أن الكارثة الإنسانية وبهذا الحجم الناتج تفضي وبلا رحمة إلى تفكيك النسيج الاجتماعي ،وعن تفكيك الكيان السياسي العراقي من خلال الإعانات الغذائية وفرض حضر الطيران على المنطقتين الشمالية والجنوبية يذكر هانز سبونيك في ص60من كتابه "تحتوي جميع خطط التوزيع الثماني الشاملة ل((عمر)) برنامج النفط مقابل الغذاء ،من 10كانون الأول /ديسمبر 1996إلى 21تشرين الثاني /نوفمبر 2003،على ميزانيات منفردة لكردستان العراق .وكانت تفصيلات تلك الميزانيات من وضع وكالات الأمم المتحدة في الشمال العراقي ،بالتعاون مع السلطتين الكرديتين المحليتين ،أي الحزب الديمقراطي الكردستاني (kdp) في أربيل ودهوك ،والإتحاد الوطني الكردستاني (puk) في السليمانية .واستثنيت من الميزانيات الأغذية والطبية ،لأن الحصول على هذه الأخيرة كان يتم مركزيا من قبل الحكومة العراقية ." هذا يعني أن الأمم المتحدة ومتمثلة ببريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية أعطت خصوصية أكبر للشمال العراقي تكريسا للانقسام وكانت الحجة حمايته من قوات السلطة العراقية آنذاك ،ويذكر سبونيك في نفس الصفحة "وشملت المفاوضات بشأن الميزانيات ،كما أجرتها مع المجموعتين الكرديتين ثم مع الحكومة المركزية في بغداد ،قطاعات المياه والمرافق الصحية والزراعة والتعليم الابتدائي والعالي .أما المفاوضات حول ميزانيات برامج إعادة الإسكان وإزالة الألغام ،وهما قطاعان تفردت بهما كردستان العراق ،فقد تمت بشكل منفصل بين الأمم المتحدة والسلطات الكردية " ودائما تسير الولايات المتحدة وبريطانيا باتجاه إضعاف وحدة الكيان السياسي العراقي من خلال سياستها أثناء فرض منطقة الملاذ الآمن في شمال العراق ،وفي هذا الصدد يذكر سبونيك في كتابه هذا عن قضية الكهرباء في العراق وفي ص78 "ووفقا لمذكرة التفاهم التي وقعتها الأمم المتحدة والحكومة العراقية في العام 1995؛أُطلقت يد المحافظات الكردية لوضع برنامج إمدادات كهربائية خاصة بها بالتشاور مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (undp) .وكان برنامج الأمم المتحدة هذا مسؤولا ،من الجانب الدولي ،عن تنفيذ برامج كهرباء في كردستان العراق فقط " وهنا يشير المسؤول الأممي إلى قضية مهمة عملت عليها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بواسطة الأمم المتحدة وهي مسألة انتهاك السيادة العراقية في منطقة الملاذ الآمن (شمال العراق ) إذ يذكر في نفس الصفحة "وفي حين أن قرار مجلس الأمن 986بتاريخ نيسان /أبريل 1995شدد في فقرته ما قبل الأخيرة،أي الفقرة 18،على أن ((لا شيء في هذا القرار ينبغي تفسيره بأنه انتهاك لسيادة العراق أو لسلامة أراضيه ))، فقد خلت مذكرة التفاهم من هذه الإشارة .قد يبدو هذا غير مهم ،ولكن كانت له تبعات سياسية في نهاية الأمر؛" أما ما هي هذه التبعات السياسية من وجهة نظر هانز سبونيك ؟ يجيبنا وبنفس الصفحة عن غياب الإشارة لوحدة أراضي العراق قائلا "إذ إن غيابه عن مذكرة التفاهم أعطى السلطات الكردية و((برنامج الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية بين الفعاليات))،كما سمي البرنامج الخاص بكردستان ،حرية تنفيذ برامج لا تستدعي بالضرورة التوافق مع روح ((السيادة)) و((وحدة الأراضي)) ." وهنا يصل بنا هانز سبونيك إلى تشخيص مهم ونتائج أهم وأخطر لهذه السياسة المنفذة في شمال العراق قائلا "عززت حرية التصرف تلك عزم السلطات المحلية في دهوك وأربيل والسليمانية على الابتعاد أكثر فأكثر عن السلطات المركزية في القطاعات كلها عمليا .وقد شكل قطاع الكهرباء دليلا مبكرا وملموسا على مشروع كردي لإنشاء مؤسسات ومرافق مستقلة عن بغداد "وهنا يشير سبونيك في هامش وبنفس الصفحة أن السلطات الكردية حاولت تزويد سياراتها التي زودت بها بموجب اتفاق النفط مقابل الغذاء بأرقام خاصة بها ،عندها تحركت مؤسسة سبونيك ومنعتها من تنفيذ هذه الخطة .وهنا يذكر سبونيك هذه الفقرة التي تقول "طرحت خطة التوزيع الخامسة ميزانية لقطاع الكهرباء الوطني قدرها 409ملايين دولار وكان 116مليون دولار منها (أي 28،4بالمئة) مخصصا لكردستان العراق .وبذلك ،شكل عنصر الكهرباء بهذه النسبة ثانية أكبر حصص التمويل في أي قطاع من قطاعات المناطق الكردية ؛ إذ كان المبلغ الأكبر موجودا لقطاع الأغذية الذي استخدم 166مليون دولار ،أي 34،4بالمئة" ويذكر سبونيك في ص79عن أن الساسة الكرد قد زادت روحهم الانفصالية أو قل شجعتهم السياسة الغربية على هذا النفس أكثر من ذي قبل إذ يقول "وقد كانت السلطات المحلية الكردية مستعدة أيضا للاستثمار في إصلاح وتوسيع خطوط النقل عبر خط المراقبة بين دهوك والموصل ودفع جزء من التكاليف .ولكن ،من ناحية أخرى ،لم تكن السلطات المحلية الكردية واثقة من أنها ستحصل على حصتها من الكهرباء من شبكة وطنية معاد تأهيلها تحت سيطرة بغداد .ولذلك ،كانت الأفضلية الأولى لإنشاء شبكة إمداد موازية ومستقلة تحت سيطرتها بصورة حصرية" ثم يقول "لاشك في أن لجنة العقوبات التابعة لمجلس الأمن كانت تعلم بتلك التوجهات " أي توجهات الساسة الكرد من خلال ما "تجلى ذلك من بنوع المعدات التي أرادت السلطات الكردية شراءها بمساعدة من برنامج الأمم المتحدة للتنمية ،ولاسيما شبكات النقل والتوزيع الجديدة ؛فمجلس الأمن لم يطرح أي سؤال ؛والفقرة 18من قرار الأمم المتحدة 986بشأن ((وحدة الأراضي)) و((السيادة)) بات في طي النسيان .ودل الموقف الذي اتخذه ممثلو الولايات المتحدة وبريطانيا في لجنة العقوبات تجاه المشتريات من أجل قطاع الكهرباء .على أنهم كانوا يؤيدون النهج الكردي تأييدا تاما .وفي حين أن لجنة العقوبات جدت في إخضاع طلبيات الحكومة العراقية بشأن قطع غيار ومعدات بديلة لفحص دقيق ،وعرقلت مرحلة بعد مرحلة ،أعدادا كبيرة من طلبات الشراء لمصلحة مناطق تحت سلطة بغداد ،فقد وافقت على جميع الطلبيات المتعلقة بكردستان العراق .وهاكم احصاءات تعبر عن نفسها :في تشرين الأول /أكتوبر 1999كشفت مراجعة لطلبات في قطاع الكهرباء للمراحل الرابعة والخامسة والسادسة عن أن عقودا بقيمة 250،6مليون دينار في قطاع الكهرباء منع تنفيذها .واشتملت الطلبات تلك على مضخات معالجة مياه ،وتبديل أنابيب مراجل قديمة ،وخطوط نقل ،وأجهزة قياس وتحكم ،ومعدات أمان،وقطع غيار ،إلخ .
أما بالنسبة إلى كردستان ،فلم يمنع تنفيذ عقد واحد ،والشيء الوحيد الذي أخرته هو تيودوليت (جهاز لقياس الزوايا)ثمنه 6072دولارا بسبب وجود تناقض في فاتورته" وليس لأمر آخر ،وهنا يجب أن نذكر مرة أخرى إن هذا الذي يتحدث عنه هانز سبونيك يجري بموجب قرار النفط مقابل الغذاء والدواء ،وهنا مرة ثانية يؤكد الحقيقة الخطيرة في عمل منظمات الأمم المتحدة بقيادة كل من أمريكا وبريطانيا ،إذ يذكر وفي نفس الصفحة "لقد كان التعاون في تناول عقود الكهرباء الخاصة بمناطق تحت سيطرة بغداد وأخرى تحت سيطرة كردية عملا سياسيا ذا مضامين خطرة بالنسبة إلى العراقيين القاطنين في الأجزاء الوسطى والجنوبية من البلد ." وعلى هذه الأسس نجدد التساؤل مرة أخرى إذا كان هذا هو الحال والعراق يتمتع آنذاك بسيادة شكلية في واقع الأمر .وأقول شكلية ذلك أن العقوبات وفرق التفتيش أفرغت هذه المفردة من محتواها في العراق ،فكيف الحال إذاً والعراق وقع تحت الاحتلال العسكري والسياسي الأمريكي ليكون منطلقا لتحقيق فلسفة الفوضى الخلاقة في منطقة الشرق الأوسط وإحدى مصاديقها الفروقات بين أبناء البلد الواحد ،والمجتمع الواحد ،وكذلك المحاصصة وغيرها .هذا التساؤل أضعه للتفكير فيه من خلال ما قرأناه من شهادات قيمة لهانز سبونيك .
|