إنّ تونس أكثر البلدان العربية والإسلامية توغلا في "الحداثة". وهي حداثة متوحشة أفرزها العقل التونسي ولم تُكتسب بالمال مثلما هو الحال عند إخواننا في الخليج العربي. وهنا تكمن المشكلة: لمّا يكون العقل متورطا في مثل هذا الزيغ العقدي فاللوم على الفكر التونسي الحداثوي الذي قاد العقل المجتمعي إلى اللافكر،لا على النظام السياسي.
إنّ جهاز الحكم في تونس من أرقى ما هو موجود في عالمنا العربي من حيث التشريع، لكنه بقي حبرا على ورق في جوانب حساسة منه لأنّ التربة الفكرية الوطنية، والعربية التي ننتمي إليها، لم تنتج فكرا يؤمن بتقديم العقل المعنوي على العقل المادي (أو على الأقل بإرساء التعادل بينهما) لكي يكون مسيّرا لهذا الأخير وضابطا له ومعدّلا له تحسبا للأزمات مثل التي يعيشها المجتمع التونسي اليوم. فما دخل النظام الحاكم التونسي، أو في أي بلد عربي آخر، في أزمة ذات العمق الإيديولوجي إن كانت هذه الأنظمة وليدة اللافكر من أساسها؟
إنّ اللوم، كل اللوم، على المثقف التونسي، والعربي، من المعلّم إلى الفيلسوف،لأنه تشفى وما زال يتشفى من أنظمة الحكم العربية بينما لا يعيد النظر في مرجعياته الفكرية، صانعا من شخصية الحاكم شماعة الشماعات لتبرير ضحالة هذه المرجعيات وإفلاس تفكيره وفشل مبرراته.
والعقل العربي لم يُخلق مفلسا إنما أفلس لمّا أذعن للفكر العالمي المهيمن عقديا قبل أن يكون مهيمنا سياسيا وعسكريا، وهو فكر إنساني في تكوينه الاجتماعي إلاّ أنه ليبرالي متوحش في تكوينه الاقتصادي، و مادي ونفعي في تكوينه السياسي.
وإذعان المثقف العربي المسلم عموما لهذا الفكر ليس مرده إرادة أصحاب الفكر الكوني الهيمنة (بواسطة العولمة بالخصوص) بقدر ما هو طفولة عقل المثقف الأهلي والقومي والإسلامي. وتتراوح درجات الطفولة لديه من درجة اللامبالاة إلى درجة الاعتداد إما بالحداثة المتوحشة أم بـ"الدمغجة" والهرطقة باسم الإسلام، مرورا بالاحتباس التواصلي وفي كل الحالات.
وأكبر دليل على الاحتباس التواصلي، العلة الأولى التي تنخر كيان المجتمع العريض، أنه حتى في حال الافتراض جدلا أن المثقف العربي المسلم لم يذعن عقديا ولا أخلاقيا ولا في كل الأبعاد للفكر العالمي المهيمن فإنه لم يكن أبدا قادرا على تبليغ ما يريد كبديل إنساني و دنيوي و ميداني و حسي عن العقيدة العالمية. وهنا يكمن الخطر الأكبر.
فهل نسيت نخبنا المثقفة أننا، بالمعيار اللغوي على الأقل، في غالبيتنا عرب، وأنّ العرب لم يولدوا ليُفكروا بالمنهاج الذي لقوه جاهزا عند ميلادهم، بدليل نزول القرآن عليهم وتبديله لأحوالهم؟
فلنترك إذن النظام التونسي والعربي في حال سبيله ولتستيقظ عقول المثقفين النائمين، المتشدقين بعقليتهم التابعة، الملتذين بمصائب المستضعفين وبزعم مناصرتهم، والمعتاشين من سذاجة الشعب المؤمن، والماضين قُدُما في بناء فصور الدهشة واكتناز الذهب والفضة، لكي يخاطبوا المجتمع المدني مباشرة ويتحملوا مسئولياتهم كاملة أمامه؛ تلك هي حلبة الصراع الحقيقية.
أخيرا وليس آخرا، لكأني بزعماء الرأي القائل بتخلي الحكام العرب عن مناصبهم يقعون في نفس الفخ الذي يزعمون مقاومته: شخصنة الحكم وعبادة الشخصية. وإلاّ كيف يفسرون تأكيدهم على صحة مثل هذا الحل (على حساب الحل المجتمعي) والحال أنه حلّ مصبوغ بطلاء المشكلة؟
محمد الحمّار
"الاجتهاد الثالث": الكلام إسلام.
* أدبيات (للكاتب) ذات صلة بالموضوع:
- " نحن نعيش خارج التاريخ بسبب الاحتباس التواصلي والحل هو الاجتهاد الدائري"؛ نشر على موقع "كتاب من أجل الحرية" بتاريخ 1-4-2010
- "الإسلام والديمقراطية: نظرة الحاكم إلى المحكوم هي القضية"/" مقاومة التخلف المنهجي تكرّس التمكين الديمقراطي في المجتمع العربي"؛ المرجع السابق بتاريخ 17-5-2010
- "سيكبر المجتمع باستحقاق السلطة لا بالانشقاق عنها"
- "ليس بمناهضة الحكام ستتحرر الثقافة العربية من احتواء السياسة لها"
|