1980
وصلت بيروت في ربيع عام 1980كانت الحرب ماتزال تدور بشكل متقطع في لبنان فيما الاستعدادات تجرى لشن الحرب ضد ايران في العراق. الامطار تحجب البحر الذي يتحول الى غول داكن، فيما مسلحو الفصائل الفلسطينية واللبنانية يغطون رؤوسهم بالقبع المتصل بالفيلد الكوبي الاخضر.وجدت عراقا سياسيا مصغرا هناك. شيوعيون وقوميون وديمقراطيون وبقايا سلالات سياسية تكاد تنقرض. الى جانبه ثوريون يساريون من بقاع العالم: المان، يابانيون، ايرلنديون، صوماليون، اريتريون، لاتينيون في لهيب الثورة العالمية المستعرة بين الامبريالية واسرائيل وبين قوى التحرر الوطني لتلك المرحلة. سرعان ماتسمع ازيز الرصاص وتبادل الرصاص في الشوارع وعند المنعطفات. التحليق الاسرائيلي المستمر كان يجذب بدوره هديرا متصلا ومتقطعا لمضادات الطائرات المحمولة على السيارات وفوق اسطح البنايات. كانت بيروت الغربية معسكرا امميا وفي هذا المعسكر كان ثمة جندي اسمه ابو ايوب.
في مبنى القنصلية العراقية تذكرت ابا ايوب وانا اجد نفسي غريبا من اجل انجاز معاملة ما. هل هذا وطني؟ هل هؤلاء الناس الذين اراهم لاول مرة هم من وطني؟ لقد ابتكروا طبعة ابهام من جديد وعشرات التواقيع وصور وعناوين واعادة توقيع واعادة بصمة ابهام او حافر،لافرق ،من اجل ان يقولوا لك اننا سرقنا الوطن حتى دون توقيع او عنوان او بصمة ابهام. وزورا ثلاثين الف شهادة لكي يحكموا قبضة اللصوصية دون توقيع او بصمة. لمن هذا الوطن؟ سأالت احدهم قال ان كل موظف او موظفة هنا هو اما ابن مسؤول او ابنة مسؤول او ابن اخيه او ابنة اخته. من اعطاهم كل هذا الوطن ببقضه وقضيضه كما كانت تقول العرب؟عليك ان تثبت شخصيتك لمن لاتعرفه ولايريد ان يعرفك. لمن سرق حقك ولايريد ان يعيده اليك حتى لو كنت تملك كل الاثباتات. تثبت انك ابن الوطن لمن كان لايعرف ماهو الوطن سوى صدام واجهزته التي كانت صورة الوطن.حتى المنفى سرقوه منا. وهناك ثلاثون مليون عراقي في الوطن لايعرفهم الوطن ولايعترف بعراقيتهم الا حين يقتلون بسيارة مفخخة او حزام ناسف. فتقول الاخبار: قتل اليوم ما لا يقل عن سبعين عراقيا كما جرح المئات في انفجار سيارة مفخخة في بغداد.فلمن هذا البيت؟ تذكرت قصيدتي عام 1985 بهذا العنوان.
نعم لمن هذا الوطن الذي سالت دماء وتضحيات قوى وتيارات واحزاب وشخصيات مختلفة من اجله فلايحق لاحد ان يحتكره ويستولي عليه. من اين اتى كل هذا العدد الاهائل من المجهولين لكي يغتصبوا حقوق ابنائه ؟ لا يمكن التعويل على هؤلاء انفسهم لتغييرهم دون ان يعمد الناس لتغييرهم. لمن هذا الوطن الذي يضرب فيه الشرطي المواطن ويسحبه من شعره في شريط مصور اثناء مداهمة قوات مدججة بالسلاح والمعدات التي كأنها ذاهبة لتطهير الوطن من الارهابيين فاذا بها تضرب ناسا يهيمون في واديهم الخاص ويغرقون في متاهاتهم التي يدورون فيها دون سلاح ولا اشارات طرق، وفي نفس الوقت تعرض العراقية، رأيتها صدفة طبعا، دعوة لاحترام النظام لانه دليل على حب الوطن. هل نحن بهذه السذاجة؟ كلما ارى شيئا من ذلك اتذكر محنة علي حين ينصحه معاوية بالتمسك بالاسلام. استطيع تحمل اشياء كثيرة سوى ان اتحمل مصادرة عقلي. لا استطيع ان اصدق ان الفضيلة هي هوان الناس وان العراق يشكو من وجود عدد من النوادي الاجتماعية التي يجب تطهيرها ليرتاح الجيران فيما العراق ينام على مجاميع ارهابية وفساد وتزوير وسرقات وفقر وبطالة وزواجات متعة دفعت المسؤولين الصحيين الى الطلب من القادة الروحانيين الافتاء بتأجيل المتعة بعض السنوات لمحاصرة مرض الايدز الذي اخذ ينتشر في العراق الجنوبي.
لا احد يعرف من هو ايوب وكلنا نعرفه. قبلنا عرفه الفلسطينيون منذ نهاية الستينات. مقاتلا في صفوفهم ومدربا لبعض فدائييهم. كنت احمل معي افكاري الديمقراطية فتعرفت على بعض اعضاء اتحاد الديمقراطيين العراقيين. كان منهم ابو ايوب وابو علي درعا، العراقي الاخر الذي رافق ابا ايوب في طريقه وفي مهماته. تركوا العراق لاسباب سياسية بعد مجئ البعث للسلطة مرة ثانية وحلوا بين صفول المقاومة الفسلطينية حين لم يكن لها خبير سلاح او جيش واحد.
ابو ايوب رجل مبهم. لايفصح عن نفسه ولكن ليس لديه شيئ يخفيه، لكن بساطته تجعله مبهما. تستطيع ان تتعرف عليه من خلال اشارات. فاول اشارته هي وطنيته العراقية التي لاتخفى على احد، ولم تخف على الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي اوقفت التعامل معه رغم قدمه وموقعه فيها، بعد محاولة اغتيال السفير العراقي في بيروت عام 1978التي اتهم بتنفيذها وقد حكى لي قصة مقاتل صبور ، ولذلك اسمه ابو ايوب. فقد انتظر تسع ساعات بين خرائب واطلال تحت جسر الكولا ،حتى يرجع السفير من سهرته في المنطقة الشرقية. اما العراقيون فكلهم يعرف ابا ايوب. لكن حين تسأل ما اسمه يصمت الجميع فهم لايعرفون اسمه. وحين تسأل من اي مدينة هو في العراق يرفع الجميع حواجبهم محتارين.
بعد بيروت انتقل الى سوريا وهناك عاش ليموت هناك.كأن ليس في العراق متران من الارض ليحيا عليها العراقي ويموت تحتها.انه قدر المناضلين الذين يصنعون التاريخ ليسرقه غيرهم. فماذا تبقى من اسلام محمد وعلي واسلام بين هاشم؟
مالذي بقي من هذا الوطن ؟ قالت الانباء ان عائلة بريطانية من اصل عراقي قتلت في القسم الفرنسي من جبال الالب. اصبح الحدث عالميا واهتم به الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في مباحثاته مع رئيس الوزراءالبريطاني ديفيد كاميرون في لندن. ليست القضية ان نذكر ونصف ونكرر بل ان نعمل على تحويل الانسان في العراق الى قيمة انسان حقيقي. كيف يمكن لنا ان نحمل الحكومات العراقية، الحالية والتي تأتي لاحقا، على التعامل مع الانسان العراقي على انه قيمة اولى لهدف الحكم.
جيران سعد الحلي ، الذي قتل مع عائلته، جاءوا بباقات الورد ليضعوها اما باب بيته، كانوا متأثرين. هل ترون كيف يصبح للعراقي احبة من خارج وطنه ولايكون له، ربما، احباء من وطنه؟
هل لدي احباب من وطني؟ هل لابي ايوب احباب من وطنه؟ رأيته في فندق فلسطين وانا استعد لحملتي الانتخابية، زارني في الفندق وسألته عن اخباره، لم يشك لي شيئا لكن غربته في وطنه كانت ماثلة في عينيه كغربتي في وطني. تحدثنا عن الماضي قليلا وعن الحاضر والمستقبل كثيرا. قال لي انه يحشد اصدقاء لينتخبونني في العراق وفي سوريا. لم يشرب شايا او قهوة لزهده ، وقد قدم لي مساعدة كبيرة بذلك، لانني اطلب قهوة او شايا فلا يوجد في فندق الدرجة الاولى هذا. واذا طلبت شيئا لايأتيك ، او يأتيك بعد الحاحك بعد ساعة. كل شئ مخرب: الماضي والحاضر والوظيفة والالتزام والعلاقات الطبيعية بين الناس وبين الاشياء كما تخربت الطموحات واتجهت في طرق اخرى انهارت فيها الاخلاقيات والرسالات والوصايا.
اعود قليلا للاسبوع الماضي بما له صلة بابي ايوب ، فقد لامني عدد من اصدقائي على ثقتي العالية بالشعب العراقي . وعادت النغمة ان هذا الشعب حالة لا امل فيها، فتذكرت ابا ايوب وهو من هذا الشعب. وتذكرت نفسي وتذكرت المئات من الذين ينتمون لهذا الشعب ويثقون بخدمته وضحوا ويضحون من اجله وهم من هذا الشعب. تذكرت ان الانبياء والمصلحين لايكذبون ولايغشون . وتذكرت ان انبياءنا ومصلحينا السياسيين كذابون وغشاشون وهذا سبب خطير لحالة الشعب التي يروجون ان لا امل فيها. تذكرت ان الذين قادوا اممهم الى النور والحرية والحياة الكريمة ليسوا المزارعين ولا الحرفيين ، ولا سواق العربات ولا الباعة المتجولين ، ولا الارامل والايتام ولا العاطلين عن العمل انتظارا لبدء حياتهم ، ولا الطلبة والمعوزين ولا باعة الخضروات والعطارين ، ولا الحراس والشرطة والجنود ولا اصحاب المطاعم والمقاهي ، ولا الخبازين والبزازين والقصابين ، ولا قراء مقاييس الماء والكهرباء ولاباعة الملابس وغيرهم ، وانما النخب الفكرية والثقافية والسياسية والتعليمية الذين يؤمنون انهم قادة لشعوبهم وليسوا مرتزقة او لصوصا والذين يؤمنون ان لهم رسالة قيادة شعوبهم الى النور لا الى الديجور والى الحياة لا الى الممات ،والى الحرية لا الى العبودية ، والى العلم والعدالة لا الى الظلم والجهالة. المشكلة اذن في خيانة النخبة للامانة وفي فساد هذه النخبة التي تحتقر شعبها وتبقيه في حالة القرون الوسطى لتكسب من تجارتها هذه ومن عروض الجهل والتجهيل وغسل الادمغة واهانة الانسان وتكريس عبوديته وتحويله الى دمية ناطقة تردد اوهام واباطيل النخبة ،سواء باسم الاسلام ،او باسم القومية ،او باسم الطائفة، او باسم الايديولوجيا، وحتى باسم الليبرالية والعلمانية التي يرطن بها عن جهل وادعاء اتباع الايدلوجيات والاحزاب الشمولية المعادية للحريات والقوانين والحقوق ، فشوهوها واعطوا اعداءها فرصة الطعن بها والتخويف منها. |