حين تعتلي جسر القطار القريب من تقاطع المرور السريع الذي يشمخ فيه فارس يمسك رمحا مغروزا في قلب حيوان بشع ، يمتطي حصانا لا تستطيع تمييز انفراج فكيه ، هل يصهل أم يبتسم أم يضحك عليك ، ستحشر نفسك بين سنامين عندما تكون عند نقطة تحدبه العليا ، ستتأرجح بين الاندفاع والتقهقر ، السنام الأول الذي يتقدمك مكتنز يأمل الوصول إلى مدينة رملتها الحروب وأعياها فراق أحبتها ، يفصلك عنها شريط صحراوي ممل . . . . والسنام الذي خلف ظهرك ممتلئ بالحنين إلى العودة ثانية حيث الشوارع التي حفظت نمو أصابع قدميك وأصدقاء سخنت دماءهم الحروب فتكاثف ضبابا احمر في حدقات العيون . . ربما يقفز إلى ذهنك سؤال : هل المدينة سبب آلامنا أم نحن سبب ترملها ؟ لكنك حتما سوف تظل ممسكا بالسنام الأول وأنت تغادر حضنا اعتدت وتآلفت مع كل شيء فيه ، حتى ما هو سمج . سوف تمد رجليك وتسند ظهرك لتأخذ إغفاءة ربما لا تنعم بصور تخيلاتها . . ولكنني حين اعتلي ظهر الجسر ينتابني إحساس حاد غريب ، ذلك أن أهلي يمكثون وسط مزابل المدينة ، ونفايات المعامل الصناعية ، والمياه الثقيلة القذرة التي ترميها سيارات البلدية ، فاشعر بنفسي عربة نفايات تسير باتجاه حفرة عميقة ، أو أتخيل نفسي أفعى تزحف ببطء . . . يلوح لي من بعيد لمعان صفائح ( الجينكو ) . . . منذ ثلاثة عشر عاما وأنا اسكن في هذا الحي عند تعييني في حقول النفط ، دون أن أتمكن من ملامسة ما هرب من بين أصابعي النحيلة المتهالكة المنزوية في كفي ، هاربة من ملازمة اللحظات . . يخيل لي أعمدة الكهرباء ذات الضغط العالي المنتشرة في المنطقة أشباحا ، وأكداس النفايات ذئابا حين لا اعثر على سيارة تقلني إلى ( الحي ) اجلد رجلي المتعبتين رغما عنهما عند بدء حلول الظلام . . . . أربعون دقيقة من الجسر حتى مدخل ( الحي السكني ) أسير كأني تائه في صحراء ، يبيض الخوف في قلبي وتفقس لتخرج أشباح سود تجلدني أو تتربص بي لتستفزني وتسحقني .
لا ينتهي الخوف عند مدخل ( الحي السكني ) يتحول هذا الخوف إلى مواجهة محتملة أكون فيها الطرف الضعيف مع ( عبد الله ) ، ربما يقبع في ظلمة ما ليهوي بعصا أو حجر على رأسي فهو يرعبني حتى في لحظات تأملي وانفرادي مع حلم أو حزن اقلبه ويقلبني .
لا يعرف احد وجه الحقيقة ، هل جن ( عبد الله ) ، أم انه شخص آخر ؟ ذلك انه كان وديعا ووسيما ، ثم تغير حاله فجأة . . قال البعض أن ( عبد الله ) يكثر من التنزه عصرا منفردا ، ويتوغل بعيدا على طريق مرور السيارات الرئيس ليعود بعد حلول الظلام ، لكنه بدافع الفضول ، انحرف نحو نفايات رميت على حافة الشارع حتى لامسته ، وقد جذبت انتباهه صفيحة صغيرة براقة التقطها وحاول فتحها فتناثرت محتوياتها إلى انفه فاستنشقها . أغمي عليه فوق النفايات ، وحين لم يرجع كعادته بعد حلول الظلام ، خرجت زوجته وجيرانه بحثا عنه في الطريق الذي يسير فيه غالبا . . . وجدوه ملقى بلا حركة . . . ومنذ ذلك الوقت بدأت عليه علامات الاضطراب والهلوسة ، والإسهاب في الكلام في أيما موضوع حتى وان كان تافها ، وعلى الرغم من حثه المتواصل على مراجعة احد الأطباء إلا انه يرفض ذلك بشدة ناكرا إصابته بأي مرض . . . ثم بدأ مع مرور الوقت يفقد ذاكرته خلال لحظات ويستعيدها ، ثم بدأ يفقد السيطرة على تصرفاته ليتحول إلى رجل عدواني خلال تلك اللحظات ، وتصل ذروتها خلال ثواني معدودة ، ولكونه يتمتع بقوة هائلة مخيفة لذلك من الممكن أن يقتل إنسانا بضربة واحدة في تلك اللحظات ، وحين يستعيد عقله ، لا يتذكر شيئا . وقال البعض أن سبب جنونه هو زوجته التي استعانت بصابئي فشربته ماء مسحورا كي لا يتزوج امرأة ثانية . . والأسوأ من كل هذا أن القدر قادني لان أكون جارا لـ ( عبد الله ) وقد أرعبني حين أطبق على رقبة احد أولاده فخر من بين يديه نحو الأرض ولم نتمكن من إسعافه . كان يمزح معه قبيل فورة جنونه ، وكنت اسمع مزاحه ، ثم أعقبها صرخة استغاثة وعويل زوجته . . . فلا يفصل بين ( الكرفانين ) المتلاصقين سوى حاجز خشبي رقيق وغرفتا نومنا متلاصقتان ، لذلك كثيرا ما أثير ضجة مفتعلة حين يسهب ( عبد الله ) في تفاصيل أموره الشخصية التي لا يليق بنا سماعها لأثارة انتباهه ، فيسكت أو يخفض صوته .
ذات ليلة انزل ( عبد الله ) الساعة الجدارية الضخمة ، ساعة قديمة ذات إطار حديدي متين ، ليمسح الأتربة العالقة على حافاتها , وفي تلك اللحظة ، وحين استقرت الساعة الجدارية بين كفيه ، داهمته لحظاته المروعة في وقت تجاوز منتصف الليل وبقوة جبارة ارجع الساعة إلى الخلف وقذفها الى الامام , فاستدارت لترتطم بالحاجز الرقيق . . اخترقته وتحطم زجاجها على رؤوسنا أنا وزوجتي وأطفالي . . تبللت أجسادنا بملمس لزج ساخن .
استجمعت ما بقى في رأسي من تركيز ، قدت أطفالي إلى الخارج ، تتبعنا زوجتي التي أربكتنا بالصياح .
ــ ما الذي حدث . . أين نحن ، ما الذي حدث ؟
خرج الجيران جميعهم يتساءلون :
ــ ما الذي حدث . . ما الذي حدث ؟ !
وحين أفاق ( عبد الله ) من جنونه ، أربكه الصياح في الشارع ، واستغرب من الفتحة التي حدثت في الجدار الفاصل بيننا . . خرج مسرعا يتساءل هو الآخر :
ــ ما الذي حدث . . ما الذي حدث ؟
يتساءل بلوعة واسى ، يستفهم منا عن الدم الذي لون وجوهنا وأجسادنا وملابسنا . كان أكثرنا استغرابا ودهشة. وحين دخلنا ثانية إلى ( الكرفان ) رأينا الحاجز متهشما . كان الجيران يتزاحمون في الدخول ، والساعة التي تناثر زجاجها الملطخ بالدم وسط الغرفة وعقربي الساعات والدقائق منغمسين في دماء لازالت ساخنة . . . حاولنا إعادة العقارب المنزوعة بفعل قوة الاصطدام إلى وسطها فلم نستطيع باستثناء عقرب الثواني الذي ظل يدور في قلب الساعة ، ساخنا ولونه احمر . . . وعلى الرغم من تناثر زجاج الساعة وإطارها الخارجي الضخم إلا إنها ظلت محتفظة بحركة ماكنتها . |