موارد علم الإمام الصادق عليه السلام حسب العلم الكسبي المتوارث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه العلم اللدني وهو هبة من الله تعالى، لكننا نقف عند ما ذهب عليه الأستاذ محمد جواد فضل من الإلهام، إذ لا ينطبق على الأئمة وحدهم وإنما هو عام في رحاب الفلاسفة والنوابغ وذوي أشراف النسب والروح، وقد يتواجد عند العرفانيين في الإحساس والإدراك
دكتور محمد حسين الصغير:
ـ هذا وحده لا يمكن أن ينظم إلى موارد علم الإمام عليه السلام لأنه ينبع من مصادر قد تخطئ وقد تصيب، فهي من المتحول الذي ليس له قاعدة وعلم، الإمام عليه السلام من الثابت الذي لا يتحول ومن النوع الذي يتسم بالشفافية الصادقة التي لا تتكدر، وما سوى هذا فهو تابع للحالات المتقلبة في ذائقه الإنسان وأن العلم اللدني هو علم الموهبة، فهو لطف الهي.
صدى الروضتين:
ـ البعض يتهم الشيعة بالغلو لأنهم يقولون الأئمة يعلمون الغيب
الدكتور محمد حسين الصغير:
ـ ينقسم علم الغيب إلى علم الغيب الاختصاص، وعلم الغيب الإفاضة، والشتان بين الاختصاص والإفاضة، تعلم الغيب بحد ذاته مما يختص به الله وحده، فهو كصفة ذاتية لله، وغيره كحالة ممكنة يخص بها الله سبحانه من يشاء من رسله وأوصيائه، وعلم الغيب عبارة عن رصد حقائق الأشياء التلقائية، والحديث عن الأحداث بلغة قاطعة فوق المنظور الاعتيادي للأمور باعتبارها واقع حقيقية دون شك، وهذا ما يختص به الله سبحانه وحده، ولكن الله قد أخبر نبيه بجزء من علم الغيب فيما مضى ومستقبليا، كما ورد ذلك في القران العظيم غيبا عن غلبة الروم وغلبها، وعن فتح مكة، وعن انهزام الجميع والانتصار المسلمين في زمن المستقبلي، وكما كان أمرا واقعا كان غيره ممكنا أيضا، فالله تعالى قد اختصر الأنبياء والنبي محمد صل الله عليه وآله وسلم بالذات بإيحاء الكثير من علم الغيب والاستحالة عقلية في أن يكون النبي صلى الله عليه واله وسلم قد أفاض بذلك على أمير المؤمنين عليه السلام والإمام علي عليه السلام أفاضه على المعصوم من ولده، وإذا أمكن هذا عقلا فلا مانع من تحقق استقراء، وكان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام دقيقا في الرد على من نسب له علم الغيب فقال له:
ليس هو بعلم غيب وإنما هو تعلم من ذي علم، وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدده إلا بقوله (إن الله عنده علم الساعة) وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه فعلمانية ودعا لي بأن يعيه صدري.
عن عمار الساباطي قال سألت أبا عبد الله عن الإمام يعلم الغيب؟ قال لا لكن إذا أراد أن يعلم الشيء أعلمه الله ذلك.
الإمام نفى عنهم علم الغيب ذاتيا ولم ينفي عنه عرضيا، واثبته للإمام إذا اقتضت الضرورة الدينية ذلك، وعن معمر بن خلاد قال سأل ابن حسن رجل من أهل فارس فقال له أتعلمون الغيب قال أبو جعفر يبسط لنا العلم فنعلم ويقبض عنا فلا نعلم، وقال سر الله أسره إلى جبرائيل ويسره جبرائيل إلى محمد وأسره محمد إلى من شاء.
وربما استنكر الإمام الصادق إضافة علم الغيب ذاتيا إلى الأئمة عليهم السلام حتى لا يكون هناك غلو أو إفراط في التقدير، ولقد سأل الإمام عن محمد النفس الزكية فقال إن عندي لكتابين فيهما اسم كل نبي وكل ملك يملك، لا والله ما محمد بن عبد الله في أحدهما، وهنا ينسب الإمام إخبار بهذا الشأن إلى كتاب فيه أسماء الأنبياء والحاكمين، بل إلى كتابين ليس في أحدهما اسم محمد النفس الزكية، ولا مانع من هذا شرعا أو عرفا أو عقلا هو إذن،
هذا الميراث ملامح وأسماء القوى الفاعلة.
&&&
صدى الروضتين:
ـ يرى الأستاذ محمد أبو الزهرة في كثير من التعليقات على أن علم الصادق عليه السلام هو من قبيل الفراسة والحدث والتخمين فهو يعتبر عن أخبار الإمامة الغيبية كونها من قبيل الفراسة الصادقة أو أن الإمام في بدائها من أشد الناس فراسة وألمعية أو أن أقوال تجري على لسانه من غير ادعائه علم الغيب والتحدي به، إذ هو ليس علما، ولكن أشبه ما يكون بالمصادفة المكررة وفي الأحيان الكثيرة لا يكون قاصدا لمعناها، بل تجري على لسانه من غير إرادة
الدكتور محمد حسين الصغير:
ـ هذه الافتراضات الضبابية لا تمثل عنصرا موضوعيا في حديث أستاذ أبو الزهرة، هو عالم جليل لكنها صادرة عن عدم إيمانه بخصائص الأئمة عليهم السلام ومميزاتهم، وإلا فبماذا يفسر الإخبار الغيبي إذا كان الإمام غير قاصد له، وكيف تجري على لسانه دون إرادة، وهو يريدها بالذات أمام جواب، يعجبني الأستاذ محمد جواد فضل، يقول: وأين هذا من النظرة العلمية المتجردة والبحث الموضوعي الأمين وأي استحالة في أن يكون الإمام الصادق وغيره من الأئمة عليهم السلام قد اختصهم النبي بعلم تلقاه من ربه، يتوارثونه من أجل أن يكون لهم ما يؤكد حقهم في تولي زمام القيادة العامة للأمة دون غيرهم.
ويرى الأستاذ محمد حسن آل ياسين أن الحق الثابت الصحيح الذي ليس غيره من حق ولا من صحيح سوى إنما ذكره الإمام الصادق عليه السلام هو إخبار بالغيب قطعا وبلا مواربة أو تردد، وليس في ذلك ما يثير الغرابة والعجب أو ينطوي على المبالغة والمغالاة، لأن بغير المأثور عن أصدق المؤمنين علي ونبي الله الأعظم ورسوله الأكرم، وقد دونه كما سمعه منه أخوه الصادق المصدق علي بن أبي طالب عليه السلام، ثم تداول ذلك المدون أولاده الثقاة، الصادقون سلام الله عليهم.
أما الحدث والفراسة والمصادفة والتخمين الذي قد تكرر ورودها في كلام الشيخ أبي زهرة لا علاقة لها بما نحن فيه من علم الغيب النبوي، بل لا دخل له في الموضوع في قليل أو كثير، لأنها مفردات لفظية قد تصلح للاستعمال أثناء الحديث عن الأذكياء والعباقرة من البشر، ولكنها لا تنسجم مع ما يعرضه جوهر الدين وأصل الشرع من الإيمان المطلق بعلم الأنبياء والمرسلين الذي يشاء الله تعالى اطلاعهم عليه كما نص القران الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أصل هذه الحقيقة التي لا يعترضها ريب قول أمير المؤمنين عليه السلام (ألا وإنا اهل البيت من علم الله علمنا، وبحكم الله حكمنا، ومن قول صادق سمعنا، فإن تتبع آثارنا تهتدوا ببصائرنا، معنا راية الحق من تبعها لحق ومن تأخر عنها غرق) وقد ربط الإمام علي عليه السلام بين العلم الذي يحملونه وبين الهداية إذ هما متلازمان، فمن عنده العلم الناصح بأدلته وبراهينه وخطوطه كافة فاتباعه يوجب المعرفة بحقائق الأشياء، سيما أن مصدره الله تعالى تلقائيا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وآله، أما من لا علم لديه فلا هداية معه.
والإمام الصادق عليه السلام في الذروة من أعلام الهدى في قدرته العلمية التي فاقت حدود الإحصاء في الاستيعاب والموضوعية والمنهجية دون الاتكاء في ذلك على علم الأساتيذ والشيوخ، لأنه ليس بحاجة إلى ذلك ومن كان علمه من علم رسول رب العالمين فهو غني عن الآخرين.
|