جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله عز من قائل "هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ ءَايَتٌ مُّحْكَمَتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ الْأَلْبَبِ" (آل عمران 7) كلام تفصيلي في المحكم والمتشابه والتأويل هذا الذي أوردناه من الكلام في معنى المحكم والمتشابه والتأويل فيما مر هو الذي يتحصل من تدبر كلامه سبحانه ويستفاد من المأثور عن أئمة أهل البيت عليهم السلام سيجيء في البحث الروائي. لكن القوم اختلفوا في المقام، وقد شاع الخلاف واشتد الانحراف بينهم، وينسحب ذيل النزاع والمشاجرة إلى الصدر الأول من مفسري الصحابة والتابعين، وقلما يوجد في ما نقل إلينا من كلامهم ما يقرب مما مر من البيان فضلا عن أن ينطبق عليه تمام الانطباق. والسبب العمدة في ذلك الخلط بين البحث عن المحكم والمتشابه وبين البحث عن معنى التأويل، فأوجب ذلك اختلالا عجيبا في عقد المسألة وكيفية البحث والنتيجة المأخوذة منه، ونحن نورد تفصيل القول في كل واحد من أطراف هذه الأبحاث وما قيل فيها وما هو المختار من الحق مع تمييز مورد البحث بما تيسر في ضمن فصول. 1 - المحكم والمتشابه: الإحكام والتشابه من الألفاظ المبينة المفاهيم في اللغة، وقد وصف بهما الكتاب كما في قوله تعالى "كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ" (هود - 1)، وقوله تعالى "كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ" (الزمر 23)، ولم يتصف بهما إلا جملة الكتاب من جهة إتقانه في نظمه وبيانه ومن جهة تشابه نظمه وبيانه في البلوغ إلى غاية الإتقان والإحكام. لكن قوله تعالى "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ" الآية لما اشتمل على تقسيم نفس آيات الكتاب إلى المحكمات والمتشابهات علمنا أن المراد بالإحكام والتشابه هاهنا غير ما يتصف به تمام الكتاب، وكان من الحري البحث عن معناهما وتشخيص مصداقهما من الآيات، وفيه أقوال ربما تجاوزت العشرة أحدها أن المحكمات هو قوله تعالى في سورة الأنعام "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا" (الأنعام 151) والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود، وهي الحروف المقطعة النازلة في أوائل عدة من السور القرآنية مثل الم والر وحم، وذلك أن اليهود أولوها على حساب الجمل، فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة وعمرها فاشتبه عليهم الأمر. نسب إلى ابن عباس من الصحابة. وفيه أنه قول من غير دليل ولو سلم فلا دليل على انحصارهما. فيهما، على أن لازمه وجود قسم ثالث ليس بمحكم ولا متشابه مع أن ظاهر الآية يدفعه. لكن الحق أن النسبة في غير محلها، والذي نقل عن ابن عباس أنه قال إن الآيات الثلاث من المحكمات لا أن المحكمات هي الآيات الثلاث، ففي الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبد الله بن قيس سمعت ابن عباس يقول في قوله "مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ"، قال الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات "قُلْ تَعَالَوْا"، والآيتان بعدها. ويؤيد ذلك ما رواه عنه أيضا في قوله"آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ" قال من هاهنا قل تعالوا إلى آخر ثلاث آيات، ومن هاهنا "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ" (الإسراء 23) إلى آخر ثلاث آيات. فالروايتان تشهدان أنه إنما ذكر هذه الآيات مثالا لسائر المحكمات لا أنه قصرها فيها. وثانيها عكس الأول وهو أن المحكمات هي الحروف المقطعة في فواتح السور والمتشابهات غيرها. نقل ذلك عن أبي فاختة حيث ذكر في قوله تعالى "هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ" إنهن فواتح السور منها يستخرج القرآن الم ذلك الكتاب، منها استخرجت البقرة والم الله لا إله إلا هو الحي القيوم، منها استخرجت آل عمران وعن سعيد بن جبير مثله في معنى قوله هن أم الكتاب، قال أصل الكتاب لأنهن مكتوبات في جميع الكتب، انتهى. ويدل ذلك على أنهما يذهبان في معنى فواتح السور إلى أن المراد بها ألفاظ الحروف بعناية أن الكتاب الذي نزل عليكم هو هذه الحروف المقطعة التي تتألف منها الكلمات والجمل، كما هو أحد المذاهب في معنى فواتح السور. وفيه مضافا إلى أنه مبني على ما لا دليل عليه أصلا أعني تفسير الحروف المقطعة في فواتح السور بما عرفت أنه لا ينطبق على نفس الآية فإن جميع القرآن غير فواتح السور يصير حينئذ من المتشابه، وقد ذم الله سبحانه اتباع المتشابه، وعده من زيغ القلب مع أنه تعالى مدح اتباع القرآن بل عده من أوجب الواجبات كقوله تعالى "وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ" (الأعراف 157)، وغيره من الآيات.
ويستطرد السيد الطباطبائي في تفسيره الآية آل عمران 7 قائلا: وثالثها أن المتشابه هو ما يسمى مجملا والمحكم هو المبين. وفيه أن ما بين من أوصاف المحكم والمتشابه في الآية لا ينطبق على المجمل والمبين. بيان ذلك أن إجمال اللفظ هو كونه بحيث يختلط ويندمج بعض جهات معناه ببعض فلا ينفصل الجهة المرادة عن غيرها، ويوجب ذلك تحير المخاطب أو السامع في تشخيص المراد وقد جرى دأب أهل اللسان في ظرف التفاهم أن لا يتبعوا ما هذا شأنه من الألفاظ بل يستريحون إلى لفظ آخر مبين يبين هذا المجمل فيصير بذلك مبينا فيتبع فهذا حال المجمل مع مبينه، فلو كان المحكم والمتشابه هما المجمل والمبين بعينهما كان المتبع هو المتشابه إذا رد إلى المحكم، دون نفس المحكم، وكان هذا الاتباع مما لا يجوزه قريحة التكلم والتفاهم فلم يقدم على مثله أهل اللسان سواء في ذلك أهل الزيغ منهم والراسخون في العلم ولم يكن اتباع المتشابه أمرا يلحقه الذم ويوجب زيغ القلب. رابعها أن المتشابهات هي الآيات المنسوخة لأنها يؤمن بها ولا يعمل بها، والمحكمات هي الآيات الناسخة لأنها يؤمن بها، ويعمل بها ونسب إلى ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة، ولذلك كان ابن عباس يحسب أنه يعلم تأويل القرآن.وفيه أنه على تقدير صحته لا دليل فيه على انحصار المتشابهات في الآيات المنسوخة فإن الذي ذكره تعالى من خواص اتباع المتشابه من ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل جار في كثير من الآيات غير المنسوخة كآيات الصفات والأفعال، على أن لازم هذا القول وجود الواسطة بين المحكم والمتشابه. و فيما نقل عن ابن عباس ما يدل على أن مذهبه في المحكم والمتشابه أعم مما ينطبق على الناسخ والمنسوخ، وأنه إنما ذكرهما من باب المثال ففي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس قال المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به، والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به، انتهى. خامسها أن المحكمات ما كان دليله واضحا لائحا كدلائل الوحدانية والقدرة والحكمة، والمتشابهات ما يحتاج في معرفته إلى تأمل وتدبر. وفيه أنه إن كان المراد من كون الدليل واضحا لائحا أو محتاجا إلى التأمل والتدبر كون مضمون الآية ذا دليل عقلي قريب من البداهة أو بديهي وعدم كونه كذلك كان لازمه كون آيات الأحكام والفرائض ونحوها من المتشابه لفقدانها الدليل العقلي اللائح الواضح، وحينئذ يكون اتباعها مذموما مع أنها واجبة الاتباع، وإن كان المراد به كونه ذا دليل واضح لائح من نفس الكتاب وعدم كونه كذلك فجميع الآيات من هذه الجهة على وتيرة واحدة، وكيف لا ؟ وهو كتاب متشابه مثاني، ونور، ومبين، ولازمه كون الجميع محكما وارتفاع المتشابه المقابل له من الكتاب وهو خلف الفرض وخلاف النص.
سادسها أن المحكم كل ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي أو خفي، والمتشابه ما لا سبيل إلى العلم به كوقت قيام الساعة ونحوه. و فيه أن الإحكام والتشابه وصفان لآية الكتاب من حيث إنها آية أي دالة على معرفة من المعارف الإلهية، والذي تدل عليه آية من آيات الكتاب ليس بعادم للسبيل، ولا ممتنع الفهم إما بنفسه أو بضميمة غيره، وكيف يمكن أن يكون هناك أمر مراد من لفظ الآية ولا يمكن نيله من جهة اللفظ ؟ مع أنه وصف كتابه بأنه هدى، وأنه نور، وأنه مبين، وأنه في معرض فهم الكافرين فضلا عن المؤمنين حيث قال " تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ" (فصلت 2 - 4)، وقال تعالى "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا" (النساء 82)، فما تعرضت له آية من آيات الكتاب ليس بممتنع الفهم، ولا الوقوف عليه مستحيل، وما لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت قيام الساعة وسائر ما في الغيب المكنون لم يتعرض لبيانه آية من الآيات بلفظها حتى تسمى متشابها. على أن في هذا القول خلطا بين معنى المتشابه وتأويل الآية كما مر. سابعها أن المحكمات آيات الأحكام والمتشابهات غيرها مما يصرف بعضها بعضا، نسب هذا القول إلى مجاهد وغيره. وفيه أن المراد بالصرف الذي ذكره إن كان مطلق ما يعين على تشخيص المراد باللفظ حتى يشمل مثل التخصيص بالمخصص، والتقييد بالمقيد وسائر القرائن المقامية كانت آيات الأحكام أيضا كغيرها متشابهات، وإن كان خصوص ما لا إبهام في دلالته على المراد ولا كثرة في محتملاته حتى يتعين المراد به بنفسه، ويتعين المراد بغيره بواسطته كان لازم كون ما سوى آيات الأحكام متشابهة أن لا يحصل العلم بشيء من معارف القرآن غير الأحكام لأن المفروض عدم وجود آية محكمة فيها ترجع إليها المتشابهات منها ويتبين بذلك معانيها. ثامنها أن المحكم من الآيات ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجها كثيرة ونسب إلى الشافعي، وكان المراد به أن المحكم ما لا ظهور له إلا في معنى واحد كالنص والظاهر القوي في ظهوره والمتشابه خلافه. وفيه أنه لا يزيد على تبديل اللفظ باللفظ شيئا، فقد بدل لفظ المحكم بما ليس له إلا معنى واحد، والمتشابه بما يحتمل معاني كثيرة، على أنه أخذ التأويل بمعنى التفسير أي المعنى المراد باللفظ وقد عرفت أنه خطأ، ولو كان التأويل هو التفسير بعينه لم يكن لاختصاص علمه بالله، أو بالله وبالراسخين في العلم وجه فإن القرآن يفسر بعضه بعضا، والمؤمن والكافر والراسخون في العلم وأهل الزيغ في ذلك سواء. تاسعها أن المحكم ما أحكم وفصل فيه خبر الأنبياء مع أممهم، والمتشابه ما اشتبهت ألفاظه من قصصهم بالتكرير في سور متعددة، ولازم هذا القول اختصاص التقسيم بآيات القصص. وفيه أنه لا دليل على هذا التخصيص أصلا، على أن الذي ذكره تعالى من خواص المحكم والمتشابه وهو ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل في اتباع المتشابه دون المحكم لا ينطبق عليه، فإن هذه الخاصة توجد في غير آيات القصص كما توجد فيها، وتوجد في القصة الواحدة كقصة جعل الخلافة في الأرض كما توجد في القصص المتكررة.
|