بقلم ؛ الدكتور نظمي لوقا (2)
أعده وعلّق عليه وكتب الملاحظات له ؛ مير عقراوي / كاتب بالشؤون الاسلامية والكوردستانية
مقدمة ؛
{ من يغلق عينيه دون النور يضير عينيه ولايضير النور . ومن يغلق عقله وضميره دون الحق ، يضير عقله وضميره ولايضير الحق . فالنور منفعة للرائي لا المصباح ، والحق منفعة وإحسان الى المهتدي به لا الى الهادي اليه .
وما من آفة تهدر العقول البشرية كما يهدرها التعصب الذميم الذي يفرض على أذهان أصحابه وسرائرهم ما هو أسوأ من العمى لذي البصر ، ومن الصمم لذي السمع . لأن الأعمى قد يبقى بعد فقد البصر إنسانا ، والأصم قد يبقى بعد فقد السمع إنسانا ...
أما من آختلّت موازين عقله ، أو موازين وجدانه ، حتى ما يميز الخبيث من الطيب ، فذلك ليس بإنسان ، بالمعنى المقصود من كلمة إنسان . وبهدي من هذا النهج وجدت من واجبي أن أكتب هذه الصفحات ، موقنا أن الإنصاف حلية يكرم بها المنصف نفسه قبل أن يكرم بها من ينصفهم .
وليس الإنصاف مزيّة لصاحبه إلاّ حينما يغالب الحوائل ، كالعقائد الموروثة ، والتقاليد السائدة ... أما حين يوافقها فما أهون الإنصاف ، [ ولولا المشقة ساد الناس كلهم ] ، كما يقول أبو الطيب . وأوشك أن أقول على غراره ؛ [ لولا العصبية أنْصَفَ الناس كلهم ] .
فما أحودنا في هذا العالم المضطرب الذي تقسّمت فيه الناس معسكرات متقاتلة متلاحية من المذاهب والعقائد التي صبغت كل منحى من أنحاء الحياة أن نسعى للقضاء على آفة العصبية ، ونتعَوّدَ الإنصاف . إنصاف الخصم وكأنه صديق ، فالمنصف إنما يعنو للحق ، ويعنو لنوره في العقل ، فيشهد لنفسه بالفضل وحسن الرأي حين يؤدي لذيي الحق حقه مهما آشتجر الخِلاف ، أو لجّ الخصام ..
وما أرى شريعة أدْعى لِلإنصاف ، ولاشريعة أنفى لِلإجحاف والعصبية من شريعة تقول ؛
{ ولآ يَجْرِمَنّكُمْ شَنْآنُ قوم على ألاّ تعدلوا } ! (3)
فأيّ إنسان بعد هذا يكرم نفسه وهو يدينها بمبدإ دون هذا المبدإ ، أو يأخذها بِدَيْدَنِ أقل منه تساميا وآستقامة ...؟ . أجل ! نعدل ولا نجور ! . فذلك حق علينا ، وحق عقولنا علينا ، وحق ضمائرنا علينا ، قبل أن يكون حق هذا من الناس أو ذاك ...
وما أرى الشانيء يضير خصمه حين يجور في الحكم عليه ، إلاّ كما يفقأ آمرؤ عين نفسه كيلا يرى من يسؤوه مرآه ... ولست أحب ذلك لأِحد ، بل إني أرى مستقبل هذه البشرية منوطا بإحترام العقل وتقصّي العدل وإنصاف الخصم ، حتى يرتد بنو حواء إخوة يختلفون في مودة ، ويتباعدون الى تقارب ، ويفيئون في نهاية كل مطاف الى نور الله الذي كرّمهم به ، وهو الحق والعدل ..
وإني لأسأل من يستكثر الإنصاف على رسول أتى بغير دينه ، أما يستكثر على نفسه أن يظلمها إذ يحملها على الجحود والجور ؟ .. ولست أنكر أن بواعث كثيرة في صباي قرّبت بيني وبين هذا الرسول ، وليس في نيتي أن أنكر هذا الحب أو أتنكر له ، بل إني لأشرف به وأحمد له بوادره وعُقباه .
ولعل هذا الحب هو الذي يَسّرَ لي شيئا من التفهّم ، وزيّن لي من شخص هذا الرسول الكريم تلك الصفات المشرقة ، وجعلني أعرض بوجداني عن تلك النظرة الجائرة ، أو المنجنية التي نظر بها كثيرون من المستشرقين وغيرهم الى الرسول العربي (4) ، ولكني حين أحتكم الى العقل ، أرى الخير كل الخير فيما جنحت اليه . فلخير من يُشَوِّه المشوهون كل جميل وكريم من مفاخر البشرية المثخنة بالقروح والمخزيات ؟ ، ولخير من يثلب الثالبون كل مجيد من هداة هذا الجنس الفقير الى المجد ، الثقل بالخساسة والحقد ؟
ألا إن كل محب للبشر ينبغي أن يكون شعاره دواما ؛
مزيدا من النور ! ، ومزيدا من العظمة ! ، ومزيدا من الجمال ! ، ومزيدا من البطولة والقدوة !
وبدافع من حب البشرية أقدمت على تسطير هذه الصفحات ، وسيّان بعد هذا أن يقول عنها القائلون ؛ إنها شهادة حق ، أو رسالة حب ، أو تحية توقير وتبجيل ، فما كان كآحاد الناس في خَلاله ومزاياه ، وهو الذي آجتمعت له آلاء الرسل ، وهمة البطل ، فكان حقا على المنصف أن يكرم فيه المثل ، ويحيي فيه الرجل .. ]
الدكتور نظمي لوقا
10 ش إبن سينا / مصر الجديدة / 1948 – 1959
التعليقات والملاحظات ؛
1-/ المصدر ؛ كتاب / [ محمد / الرسالة والرسول ] لمؤلفه الدكتور نظمي لوقا ، مقدمة بقلم السيد كمال الدين حسين وزير التربية والتعليم للجمهورية العربية المتحدة . ملزم الطبع والنشر ؛ دار الطتب الحديثة ، طبعة خاصة بوزارة التربية والتعليم ، ط 2 ، أغسطس 1959 ، القاهرة ، مطابع دار الكتاب العربي بمصر ، ص 25 – 28
2-/ الدكتور نظمي لوقا / 1920 – 1987 فيلسوف وعالم وكاتب ومترجم ومؤلف مصري مسيحي معروف ، له الكثير من المؤلفات والترجمات في متختلف حقول العلم والمعرفة ، منها :
- نحو مفهوم إنساني للإنسان .
- الحقيقة عند فلاسفة المسلمين .
- الله أساس المعرفة والأخلاق عند ديكارت .
- الله وجوده ووحدانيته بين الفلسفة والدين .
- عمر بن الخطاب ؛ البطل والمثل والرجل .
- أبو بكر حواريّ محمد .
- محمد في حياته الخاصة .
- أنا والاسلام .
- الله ، الانسان والقيمة .
- أشباح المقبرة / ديوان شعر .
- كنت وحدي / ديوان شعر .
3-/ إن الآية الحكيمة التي أشار اليها المرحوم الدكتور نظمي لوقا بتمامها هي ؛ { يا أيها الذين آمنوا كونوا قَوَّامين لله شهداء بالقسط ، ولايجرمنكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا ؛ إعدلوا هو أقرب للتقوى ، وآتقوا الله ، إن الله خبير بما تعملون } المائدة / 08 . فهذه الآية هي عظيمة الأبعاد والمفاهيم على مستوى تقرير العدالة ، حيث هي أساس لها لأنها تحض على مبدأ العدالة كقيمة عامة لاتتعلق بالصداقة والخصومة ، أو غيرها من العلاقات والفروقات .
4-/ للأسف الشديد فإن الكثير من المستشرقين وغيرهم أيضا من أتباع الديانات لم ينهجوا في تقويمهم لرسول الاسلام والمسلمين العظيم محمد صلى الله عليه وآله وسلم منهجا موضوعيا وعلميا ونقديا محايدا ، وذلك بسبب التزمّت والتعصب الديني وغيره . لكن بالرغم من ذلك فقد نهضت جماعة من المستشرقين والعلماء في الشرق والغرب نهضة محايدة فأزاحوا ودحضوا كل الإتهامات والإفتراءات والشبهات والأكاذيب عن الاسلام ورسوله وكتابه ، منهم فيلسوفنا هذا الدكتور نظمي لوقا فجزاه الله تعالى خير الجزاء ورحمه رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته .
|