• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : الوتدَ .
                          • الكاتب : هدى الغراوى .

الوتدَ

 - عليكَ أَنْ تسرعَ قبلَ أَنْ ينقضيَ الوقتُ.

- أَشعرُ بعطشٍ شديدٍ.
هذا ما دارَ بيني وبينَ الرجلِ، هذا كلُ شيءٍ، طَوَالَ الطريقِ كانَ يمشي معي لكني لمْ أَشعرْ لِلحظةٍ أَنَّهُ يمشي معي، بلْ أنا مَنْ كنتُ أمشي خلفَهُ، محاولاً اللحاقَ بهِ، لا أعرفُ كيفَ بدتِ الشمسُ بهذهِ الحرارةِ، فحتى ثيابي تلسعُني مِنْ شدةِ الحرِ، بالرغمِ مِنْ ذلكَ كانَ يشغلُني وجودُ هذا الرجلِ، كيفَ ظهرَ فجأةً وصرتُ انقادُ إليه دونَ خوفٍ أو قلقٍ والمكانُ يضجُ بالموتِ حتى ظننتُ أنَّ يومَ القيامةِ قدْ حانَ، فكلُ ما حولي بدا غريباً.
فزعتُ مِنْ هذا الحُلمِ مرعوباً وكنتُ أشعرُ بعطشٍ شديدٍ حقاً بالرغمِ مِنْ برودةِ الجوِ، شربتُ قدحينِ مِنَ الماءِ، لا أدري كمْ مضى مِنَ الوقتِ، خالجني إحساسٌ كأنني نمتُ دهراً كاملاً، نظرتُ إلى الساعةِ فكانتْ تشيرُ إلى الثالثةِ، لقد عانيتُ الصداعَ طَوَال ذلكَ اليومِ وغفوتُ دونَ أَنْ أشعرَ بالنعاسِ، غريبٌ حقاً كيفَ حصلَ ذلكَ وأَنا الذي تعودتُ السهرَ فلا أنامُ حتى تأخذني نشوةُ السكرِ معَ أصدقائي.
كانَ مِنَ الطبيعي أَنْ أَرى أحلاماً في نومي، لكنَّ هذا الحُلمَ علقَ في رأسي وحتى عندما شربتُ الماءَ شعرتُ براحةٍ كبيرةٍ وذهبَ الصداعُ عنَّي كما يهبُ إعصارٌ وينتهي فجأةً.
بقيتُ على سريري أفكرُ هلْ لما نراهُ في المنامِ واقعٌ حقيقيٌ وإلى أي مدىً يكونُ مؤثراً، ما هوَ ذلكَ النداءُ ولماذا تعلقتُ بذلكَ الرجلِ الذي لمْ أرَ ملامحَهُ حتى؟
عندما كنتُ في التاسعةَ عشرةَ مِنْ عمري أتذكرُ أنَّ والدي بعدما جئتُهُ بنتيجةِ فشلي في الدراسةِ قالَ لي إنَّ أُمَكَ قبلَ مجيئِكَ بيومٍ إلى هذا العالمِ بكتْ بكاءً مراً لأَنَّها رأتْ في المنامِ أَنَّها ولدتْكَ وكنتَ كفيفَ البصرِ، فعرفتْ أَنَّكَ ستتعبُها. أنتَ ولدٌ فاشلٌ لا فائدةَ منكَ.
أثرَ هذا الكلامُ في نفسي وانكسرَ قلبي حتى أَنَّي جابهتُهم بالكراهيةِ واتخذتُ طريقاً آخرَ فتمردتْ أفعالي أكثرَ انتقاماً لنفسي من الكلامِ الجارحِ والصورةِ التي كونوها عنَّي.
ابتعدتُ عنِ اللهِ ورسولِهِ وعنْ أهلِ بيتِهِ، ولجأتُ إلى أصدقاءِ السوءِ، فصرتُ أفعلُ ما يفعلون، شربتُ معهم الدخانَ ثُمَّ شيئاً فشيئاً انجرفتُ معهم حتى كأَنَّي عميتُ، ولمدةِ سنتينِ صرتُ في ظلامٍ دامسٍ. تركتُ الصلاةَ وتغيرتُ كثيراً.
كانتْ أُمي تحذرُني دائماً ممَّا أفعلُهُ وتقولُ: اللهُ يهديك يا بني ولأني أرضعتُكَ حليباً طاهراً مليئاً بحبِ الحسينِ، سيهديكَ اللهُ بطريقةٍ ما، متأكدةٌ سيهديكَ لكنْ عليكَ أنْ تعينَ نفسَكَ يا ولدي. 
كانتْ تكررُ ذلكَ عليَّ مراراً حتى أَنَّي صرتُ أتوقعُ متى تعيدُها عليَّ.  
تذكرتُ أفعالي السيئةَ وأنا أحسُ بالضياعِ وغلبَ قلبي غماً شديداً. لماذا أنا وحدي، كأنَّي دابةٌ تهيمُ في الأرضِ ولا تعرفُ الطريقَ، فقدتُ نفسي منذُ زمنٍ بعيدٍ وعصيتُ ربِّي، أبعدَ كلِ هذا يقبلني اللهُ؟.
دخلتْ عليَّ أُمي وهي تحملُ القرآنَ الكريمَ وقدْ لفتْهُ في قطعةِ قماشٍ خضراءَ ثُمَّ قالتْ:
- لقدْ أخبرتُ أباكَ بما قمتَ بهِ قبلَ ساعةٍ. وها هي الأمانةُ يا بني منذُ الأمسِ جاءَ رجلٌ وقالَ إِنَّها باسمِكَ مِنْ كربلاءَ المقدسةِ.
وضعتْ راحةَ يدَها تتحسسُ حرارتي ثُمَّ أردفتْ: أنا سعيدةٌ بكَ يا ولدي لقدْ خفتْ حرارةُ جسمِكَ كنتَ محموماً يومَ أمسِ حتى أنَّي قلقتُ عليكَ كثيراً، قالتْ ذلكَ وهي تمسحُ بالقرآنِ الكريمِ على صدري وتهمسُ بصلواتٍ تخرجُ مصحوبةً بمحبةٍ وبكاءٍ. ثُمَّ أكملتْ: في الحقيقةِ سعيدةٌ أكثرُ لأَنَّكَ وجدتَ طريقَ الحقِ يا حبيبي.
لمْ أعرفْ ما الذي كانتْ تتحدثُ عنهُ أُمي فنظرتُ إِليها مستفهماً.
أمسكتْ بكفي وقالتْ:
- بني حبيبي، أنا أعرفُ شعورَكَ الآنَ كلُ شيءٍ سيكونُ غريباً في بدايةِ الأمرِ، لكنْ عليكَ أنْ تلتزمَ الصلاةَ ما دمتَ قدْ عدتَ إِليها بعدَ كلِ تلكَ السنواتِ الطِوالِ، عليكَ أنْ تثبتَ ولا تسمعْ وساوسَ الشيطانِ، أنتَ لا تعرفُ كمْ كنتَ جميلاً وأنا أراكَ تصلي قبلَ ساعةٍ، شعرتُ كأنَّي ولدتُكَ من جديدٍ. حتى أنَّ أباك مِنَ الفرحةِ ذهبَ ليصليَ في كربلاءَ صلاةَ الشكرِ لهدايتكَ، وسيبقى هناكَ خدمةً للحسينِ عليه السلام.
رتبتْ أطرافَ السريرِ ثُمَّ نظرتْ إلي كمَنْ تذكرَ شيئاً:
- صحيحٌ! أخبرني لماذا صليتَ في باحةِ المنزلِ تحتَ المطرِ؟ أخافُ عليكَ أن تمرضَ يا بني.- 
لم أنبسْ ببنتِ شفةٍ. لكني أخذتُ كفَ أُمي قبلتُها وسالتْ دموعي، ثُمَّ طلبتُ مِنْها أنْ تدعوَ لي بالهدايةِ والثباتِ.
وقبلَ أَنْ تخرجَ مِنَ الغرفةِ قالتْ وهيَ تمدُ سجادةَ الصلاةِ كي تصليَ الفجرَ:
- عليكَ أَنْ تسرعَ قبلَ أَنْ ينقضيَ الوقتُ.
ذهلتُ مِنْ عبارتِها هذهِ فرددتُ في قلبي وكأَنَّي لا أقوى على الكلامِ:
- أَشعرُ بعطشٍ شديدٍ.
نظرتُ إِلى شاشةِ هاتفي أَنَّهُ يومُ الجمعةِ تذكرتُ أني رجعتُ إلى البيتِ يومَ الأربعاءِ وكانتِ السماءُ تمطرُ بغزارةٍ والشوارعُ فارغةٌ تماماً، وجدتُ في الطريقِ كلبةً تقفُ أمامَ مجرى الصرفِ وكانتِ المياهُ الآسنةُ تلتهمُ جروَها الصغيرَ حتى ظننتُ أنَّهُ ميتٌ، فتقربتُ لأنظرَ ماذا عليَّ فعلهُ، خلَّصتُ الجروَ ممَّا كانَ فيهِ، ثُمَّ وضعتُهُ بعيداً في مكانٍ آمنٍ وصرتُ أراقبُ المشهدَ، فلحقتْ أُمُهُ بهِ وهيَ تنبحُ نباحاً متتالياً كأَنَّها تشكرُني. ثُمَّ هدأتْ وصارتْ تنظفُهُ بلسانِها .
رفعتُ رأسي إِلى السماءِ وأَنا أقولُ "ارحموا مَنْ في الأرضِ يرحمكم مَن في السماءِ".. وحينَ وصلتُ إلى البيتِ شعرتُ بالتعبِ يدبُ في كلِ جمسي وشعرتُ بصداعٍ شديدٍ فنمتُ نوماً عميقاً دونَ أنْ أشعرَ مسبقاً بالنعاسِ.
هلْ كنتُ في غيبوبةٍ يا ترى؟ هلْ تقدمَ بي الزمنُ يوماً دونَ أنْ أدريَ؟ ومَنْ هذا الرجلُ الذي جاءَ بالقرآنِ الكريمِ، وكيفَ رأتني أُمي أصلي قبلَ ساعةٍ وماذا يعني نداءُ الرجلِ في المنامِ وكيفَ رددتْ ذاتَ العبارة لي قبلَ أنْ تخرجَ؟
زادتْ نبضاتُ قلبي وشعرتُ بأنَّ جسمي يرتجفُ، تحسستُ جبيني هل مازلتُ محموماً، لا أنا بكاملِ عافيتي، وشعورٌ بالاطمئنانِ والشوقِ والتسامحِ مع الذاتِ لمْ أشعرْ بهِ مِنْ قبلُ.
ربطتُ الأحداثَ وكلامَ أمي وما رأتْهُ، لقد رأتني أصلي، لكني لا أتذكرُ أني صليتُ في حياتي كلها أبداً لمْ أؤدي ولو فريضةَ صلاةٍ واحدةٍ.
كانَ ذلكَ الرجلُ والمصحفُ وكلُ الأحداثِ هي علاماتٌ واضحةٌ لرحمةِ اللهِ، أسرعتُ لأتوضأ قبلَ أنْ تشرقَ الشمسُ وشرعتُ في الصلاةِ، في المكانِ الذي رأتني أمي أصلي فيه، رغمَ برودةِ الجو شعرتُ بدفءٍ وراحةٍ كبيرةٍ، فتحتُ القرآنَ الكريمَ فوجدتُ قصاصةً صغيرةً كُتِبَ عليها (الراحمون يرحمهم اللهُ) بكيتُ كثيراً وأنا أنظرُ إلى السماءِ تمرُ الأحداثُ في رأسي شعرتُ بأنَّ يداً تجذبُني.. وصوتَ الرجلِ يترددُ مرةً أُخرى.
تذكرتُ الدعاءَ الذي كانَ يدعو بهِ أَبي مراراً: 
" اللهم صلِ على محمدٍ وآلِ محمدٍ، وبلغْ بإِيماني أَكملَ الإيمانِ واجعلْ يقيني أفضلَ اليقينِ وانتهِ بنيتي إِلى أَحسنِ النياتِ، وبعملي إِلى أحسنِ الأَعمالِ، اللهُّم وفرْ بلطفِكَ نيتي، وصححْ بما عندَكَ يقيني واستصلحْ بقدرتِكَ ما فسدَ منِّي، واستصلحْ بقدرتِكَ ما فسدَ منِّي، واستصلحْ بقدرتِكَ ما فسدَ مني..." كنتُ أدعو والكلماتُ تخرجُ بعبرةٍ ومرارةٍ. 
اقتربتْ أُمي نحوي جلستْ تبكي، لا أدري أكانَ بكاؤُها مِنَ الفرحةِ أم اشفاقاً لحالي؟ وضعتْ مبلغاً مِنَ  المالِ في حجري وقالتْ: هذا ما ادخرتُهُ طَوَال سنةٍ كاملةٍ خذْهُ يا بني وأذهبْ لخدمةِ سيدِ الشهداءِ فاليومُ هوَ الخامسُ والعشرون مِنَ شهرِ صفرٍ ذكرى شهادةِ الأمامِ عليّ بن الحسينِ_ عليهما السلام_ وقدْ خرجتِ الحشودُ مشياً على الأقدامِ. 
سكتتْ أُمي برهةً ثُمَّ سالتْ دموعُها على خديِها وأكملتْ: أريدُ أَنْ أخبرَكَ بشيءٍ وها أنا أراهُ قدْ تتحققَ. 
نظرتُ إليها متسائلاً: ماذا يا أُمي؟
لا أظنُكَ نسيتَ حينَ تشاجرتَ معَ والدِكَ قبلَ أكثرِ مِنْ شهرٍ، ورفضتَ الذهابَ معهُ لخدمةِ الحسينِ- عليه السلام - وفضلتَ أنْ تبقى معَ أصدقائكَ ثُمَّ علا صوتُكَ على أبيكَ وخرجتَ مِنَ البيتِ ولمْ تعدْ إلا بعدَ يومين؟
- نعمْ.. قلتُها وأنا منكساً رأسي.
- ليلتها طلبتُ مِنَ الإمامِ السجادِ أنْ يدعوَ اللهَ لينتشلَكَ ممَّا أنتَ فيهِ ويهديَكَ طريقَ الحقِ، سجدتُ سجدةً طويلةً ودعوتُ اللهَ كثيراً حتى تعبتُ. فنمتُ والدموعُ في عيني، مكسورةَ القلبِ، لأني لا أريدُ أنْ يكونَ ابني بعيداً عن طريقِ الحسينِ. ساعتَها رأيتُ في المنامِ كأَنَّ الموتَ بدأَ يحصدُ الناسَ واحداً تلوَ الآخرِ وبطرقٍ مختلفةٍ، فمنهم مَنْ يموتُ حرقاً ومنهم مَنْ يبتلعُهُ الإعصارُ وآخرَ يموتُ بطلقٍ ناري وهذا يسقطُ صريعاً وذاكَ يموتُ فجأةً وآخرَ تجرفُهُ الأمواجُ. هالني المنظرُ فصرتُ أركضُ باحثةً عنكَ فرأيتُكَ مِنْ بعيدٍ تركضُ خلفَ رجلٍ لمْ أرَ ملامحَهُ، كانَ الرجلُ يتقدمُ نحوَ وتدٍ عظيمٍ ليسَ لهُ بدايةٌ ولا نهايةٌ، كانَ وتدٌ من السماءِ إلى الأرضِ يشعُ نوراً ساطعاً، وحشودٌ من الناسِ تركضُ إليهِ وتحتمي بهِ من العذابِ،
وهيَ تنادي إنَّ الإمامَ زينَ العابدين سيشفعُ لمَنْ خدمَ أبيهِ الحسينَ، طوبى لخدامِ الحسينِ، طوبى لمحبي الحسينِ. فرأيتُكَ تقتربُ أكثرَ وأنتَ تبكي وتستنجدُ بهِ، كانتْ المسافاتُ بينَ الناسِ وبينَ ذلكَ الوتدِ متفاوتةً مرةً تكونُ قصيرةً وأخرى طويلةً.
استيقظتُ مِنْ نومي وكانَ صوتُ المؤذنِ يصدحُ بأذآن الفجرِ، فسرتْ في جسمي قشعريرةٌ، عرفتُ حينها إنَّ ما رأيته علامةٌ لإجابةِ الدعاءِ.
كنتُ أنصتُ لما تقوله أمي بدهشةٍ، لم أتمالك نفسي فبكيتُ بحرقةٍ واضعاً رأسي في حجرِها. 
قالتْ وهي تمسدُ على رأسي: أرأيتَ يا بني  الحسينُ هو وتدٌ عظيمٌ تمسك به جيدا وأياك أَنْ تحيدَ عنهُ، وعليكَ أنْ تسرعَ قبلَ أنْ ينقضيَ الوقتُ.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=198002
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2024 / 11 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 14