لا شك في أن لكل قصيدة تجلياتها الإبداعية الخلاقة التي ترتكز عليها في استثارة الجماليات النصية، وتعد القصيدة الفرزدقية من القصائد الخالد المؤثرة والغنية بجمالياتها النصية الخلاقة.
سميت بالفرزدقية نسبة لكاتبها الشاعر الفرزدق، الذي عاصر العهد الأموي
هو أبو فراس همّام بن غالب التميمي، قيل أنه ولد سنة 38 للهجرة في البصرة جنوب العراق
وقيل: ولد عام 38 للهجرة في كاظمة
اشتهر بكتابة الشعر صغيراً، وكان شديد التشيع لأهل البيت عليهم السلام، مجاهراً بحبهم
توفي سنة 110 هجرية عن عمر يناهز المائة سنة.
مناسبة القصيدة
قيلت القصيدة في مدح الإمام زين العابدين "علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام"
وذلك عند قيام هشام بن عبد الملك بالحجّ حيث سعى جاهداً للوصول إلى الحجر الأسود، لـٰكنّه لم يستطع الوصول له لكثرة الحجّاج آنذاك، فقاموا بنصب كرسيٍّ لهُ، يُراقب من خلاله جموع الحجيج الغفيرة، وبينما هو كذلك إذ أقبل على البيت الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام وقد كان حسن الوجه، طيب الرائحة، نظيف الثوب، فطاف بالبيت، وعندما أراد أن يصل للحجر الأسود أتاح الناس المجال إليه وانفرجوا وتنحّوا عنه هيبةً وإجلالًا لهُ، فقال رجل من كبار أهل الشام لهشام بن عبد الملك: من هـٰذا؟ فقال هشام: لا أعرفه وذلك خوفاً من أن يرغب فيه أهل الشام، وكان الفرزدق جالسًا بينهم فقال: أنا أعرفه ثمّ قال قصيدة
قد عُدّت قصيدة "هذا الذي تعرف البطحاء وطأته" من أفضل ما قدّمته قريحة الشاعر الفرزدق
القصيدة ميمية، قافيتها متراكبة، وهي من بحر البسيط
تكونت من سبعة وعشرين بيتًا
زاخرة بالصور الفنية والبلاغية التي يقف عندها القارئ والمتذوق.
فهي تحتوي على الكثير من الجماليات كالتشبيهات والمجازات والاستعارات
يَا سَـائِلِي: أَيْنَ حَـلَّ الجُـودُ وَالكَـرَمُ عِنْـدِي بَـيَـانٌ إذَا طُـلاَّبُـهُ قَـدِمُـوا
هَـٰذَا الذي تَعْـرِفُ البَطْـحَاءُ وَطْـأَتَـهُ وَالبَـيْـتُ يَعْـرِفُـهُ وَالحِلُّ وَالحَـرَمُ
استهلّ الشاعر قصيدته بالمقوم الجمالي الاستهلالي "التصريع" الذي أضفى على المطلع جمالًا
وبدأ بتعريف الإمام زين العابدين عليه السلام، ومن يكون،
و إن عنده بيانًا لمن طلبوا معرفته، فهو من حلَّ فيه الجود والكرم، وهو المعروف لدى مكّة وبيت الله وأماكن الحلّ والحرم
الصورة الشعرية في البيت الثاني تجسد أثر الحركة الجمالية من خلال فاعلية الصور المؤثرة
"تعرف البطحاء وطأته" "والبيت يعرفه"
هَـٰذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللَهِ كُلِّهِمُ هَـٰذَا التَّقِي النَّقِي الطَّاهِرُ العَلَمُ
هـٰذَا الذي أحْمَدُ المُخْتَارُ وَالِدُهُ صَلَّى عَلَیهِ إلَـٰهِي مَا جَرَى القَلَمُ
هنا بدأ الشاعر بذكر النسب الأثيل للإمام زين العابدين عليه السلام الممتد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنّه يتّصف بالتقوى والإيمان والطهارة
ونلاحظ التركيز باستخدام أسلوب تكرار اسم الإشارة "هـٰذا"
واستخدام المحسنات اللفظية، جناس غير تام "التقي النقي"
لَوْ يَعْلَمُ الرُّكْنُ مَنْ قَدْ جَاءَ يَلْثِمُهُ لَخَرَّ يَلْثِمُ مِنْهُ مَا وَطَى القَدَمُ
هَـٰذَا عليٌ رَسُولُ اللَهِ وَالِدُهُ أَمْسَتْ بِنُورِ هُدَاهُ تَهْتَدِي الاُمَمُ
هنا كتلة من مؤثرات جمالية من خلال التجسيد
فهو يقول لو يعلم ركن الكعبة من جاء يلمسَهُ ويُقبِّلَه لقام الركن بلثم وتقبيل ولمس موطئ قدم الإمام زين العابدين حفيد رسول الله صلى الله عليه وآله، دلالة على عظم مكانته
هَـٰذَا الَّذِي عَمُّهُ الطَّيَّارُ جَعْفَرُ وَالمَقْتُولُ حَمْزَةُ لَيْثٌ حُبُّهُ قَسَمُ
هَـٰذَا ابْنُ سَيِّدَةِ النِّسْوَانِ فَاطِمَةٍ وَابْنُ الوَصِيِّ الَّذِي في سَيْفِهِ نِقَمُ
هنا يتوسع الشاعر بتفصيل نسب الإمام الشريف الواضح
الذي لا خلاف فيه، فهو ابن فاطمة وعلي، وعماه جعفر والحمزة سلام الله عليهم ولا فخر بنسب بعد هـٰذا النسب.
إذَا رَأتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا إلَی مَكَارِمِ هَـٰذَا يَنْتَهِي الكَرَمُ
يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ راحته رُكْنُ الحَطِيمِ إذَا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ
ويكمل في وصف الإمام عليه السلام ويشير إلى أنّ جوده هو منتهى الجود
هنا يسبح المتذوق في بحر من المؤثر الجمالي الذي خلقه الشاعر
بالانزياح من خلال الاستعارة
فالحجر الأسود هو من يذهب ويستلم الإمام "زين العابدين" عليه السلام
أيضا نلاحظ تركيزه على جرس القاف "قريش قال قائلها" وَلَيْسَ قُولُكَ: مَنْ هَـٰذَا؟ بِضَائِرِهِ العُرْبُ تَعْرِفُ مَنْ أنْكَرْتَ وَالعَجَمُ
يُنْمَى إلَی ذَرْوَةِ العِزِّ الَّتِي قَصُرَتْ عَنْ نَيْلِهَا عَرَبُ الإسْلاَمِ وَالعَجَمُ
هنا توبيخ للسائل وتأكيد على منزلة الإمام وأن سؤاله عنه لا يضره ولا ينزِّل من مكانته وكرامَتِه، فجميع العرب والعجم تعرف من أنكر.
أيضا نلاحظ استخدام الشاعر التضاد "العرب والعجم"
|