يعدُّ الوقت من الأمور المهمة في حياة الإنسان؛ لذا اهتمّت الشريعة الإسلامية به كثيراً؛ ولأهميته الكبيرة وعظمته عند الله تعالى أقسم به في كتابه الكريم في مواضع عدة، والله تعالى إذا أقسم بشيءٍ ما فإنَّ ذلك يُعدُّ إشارة إلى أهمية وعظمة ذلك الشيء، ومن الأوقات التي أقسم بها الله تعالى قوله: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[1] ، وقوله: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ﴾[2] وأيضا قوله تعالى : ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ﴾[3] ، وغيرها من الآيات الكريمة، كل ذلك لكي نعلم قيمة الوقت ونحافظ عليه ، كما جاءت آيات كثيرة تحث على استثماره في الأعمال الصالحة، فقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾[4] ، وقال في موضع آخر: ﴿ وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِۦ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰٓ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ﴾[5] ، وأمرنا تعالى بالمسارعة في بعض الأمور وعدم هدر الوقت وإضاعته، فقال: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [6] ، وقال عزَّ من قائل : ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾[7] ، فالوقت من النعم الإلهية الكبيرة التي انعمها الله علينا، وأمرنا النبي المصطفى صلى الله عليه وآله الذي لا ينطق عن الهوى، باستثماره واغتنامه وهو يوصي الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري ويقول: (( يا أبا ذر اغتنِمْ خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَك قبلَ هَرَمِك، وصِحَّتَك قبلَ سَقَمِك، وغِناك قبلَ فقرِكَ، وفراغَك قبلَ شُغلِك، وحَياتَك قبلَ موتِك))[8]، فمرحلة الشباب مرحلة خصبة لغرس أعمال الخير في الحياة الدنيا؛ فالشابُّ يستطيع القيام بالكثير من الأعمال في شبابه، قد لا يقدر عليها عند تقدّمه بالعمر، ويشير الحديث أنَّ الاسلام يهتم بالجانب الصحي للإنسان ويدعو إلى استثمار أوقات الصحة ، وليست الصحة الجسمية هي المنشودة فقط ولا الصحة النفسية والعقلية فقط بل المنشود هو التكامل الصحي للإنسان، (وغِناك قبلَ فقرِكَ) ، مِن أجمل الوصايا النبوية لتحفيز المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى، فمَن يملِك المال للتصدُّق اليوم قد يُعجِزه سبب عن المشاركةِ في الصدقات عند فقره ؛ ولذا فعلينا اغتنامُ الوقت بالمسارعة بالصدقات، والبحث عن أوجُهِ المشاركةِ فيها، (وفراغَك قبلَ شُغلِك) فالفراغ ليس فرصة للتنعُّم بنعيم الدنيا، وإنَّما هو نعمة لنيل نعيم الآخرة، وهو الأمر الذي يُعْلي من قيمة الوقت وشأنه، ( وحَياتَك قبلَ موتِك) .فتقترن أهميةُ الوقت بحقيقة لا يمكن إنكارها، وهي الموت، فبحلول الموت ينفَدُ الوقت لفعل الطاعات؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾[9] والآيةُ الكريمة تبيِّن خطر التأخير وعدم استثمار الوقت في كثير من الأمور الصالحة والتسويف بالتوبة ، والاستعداد للرحيل، وتبيِّن فضل الصدقة وعِظَم أثرها، وهذا حثٌّ لكل مسلم على المسارعة بالإنفاق في سبيل الله، والمساهمة في فعل الخيرات بكل السبل.
وإذا ألقينا نظرة سريعة في روايات أهل البيت والأدعية والكلمات الواردة عنهم (عليهم السلام) وكونهم عِدلُ القران وترجمانه ، نرى – مثالاً- رواية شريفة للإمام الكاظم (عليه السلام) يقول فيها: ((اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان والثقات الذين يعرفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرم))[10]، فهذه الرواية تبين كيفية إدارة الوقت بالطريقة الصحيحة وتنظيمه بشكل مفيد ومثمر، فالعمر قصير، ومع عدم التنظيم لا يمكن الافادة منه ولا ينفع الندم؛ لأننا لن نستطيع إرجاع الزمن إلى الوراء ف(العمر تفنيه اللحظات) على حدّ قول أمير المؤمنين (علي) عليه السلام[11] ...
ويحثّنا الرسول الأعظم(صلّى الله عليه وآله) وينبّهنا بسنّته القولية والفعلية على استثمار الوقت بما ينفع، ويحذّر من إضاعة الأوقات سدى، فيقول: (صلّى الله عليه وآله): (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وشبابه فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ وعن حبنا أهل البيت)[12].
وللوقت مميزات وخصائص على الإنسان أن يدركها فإذا أدركها استطاع أن يغتنم الفرص، ويسعى لاستغلالها ويصل إلى الأهداف التي ينشدها، وأهمها:
- سرعة انقضاء الوقت وتصرّمه، فالوقت ينقضي بسرعة، وقد أشار القران إلى هذه الحقيقة في بعض آياته الكريمة: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾[13]، وعن الإمام علي عليه السلام: (( ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر))[14]، فعمر الإنسان يمضي بسرعة كبيرة، وهذا يدعونا إلى المسارعة إلى استثمار كل لحظة منه؛ بإنجاز أكبر قدرٍ ممكن من الأعمال، فإذا أدرك الإنسان ذلك السير السريع للوقت استطاع أن يلتفت، ويدرك أهمية ذلك الوقت الذي يمر عليه، ويبادر للأعمال الصالحة دون تسويف أو تأجيل.
كما أنّ الحقيقة القرآنية تؤكِّد أنّ من سمات وخصائص الأنبياء والرسل عليهم السلام المبادرة والاغتنام للوقت، فيقول تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾[15]، ويبيِّن تعالى – أيضاً- سمات الصالحين السائرين على نهج الرسل في اغتنام الوقت، وذلك في قوله تعالى:
﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾[16].
- ومن خصائصه أيضاً- استحالة تلافيه وإعادته إذا ما انقضى فلا يستطيع الإنسان أن يعيد اللحظات التي مرَّت ولا يعوِّض ما فاته فيه إلا بجهد كبير وتعب شديد، فالإنسان إذا مرت عليه تلك الأوقات التي كان يتمتع فيها بكامل قدراته ثم انقضت، لا يستطيع أن يعوض تلك الفُرص الثمينة التي أفلت.
- كذلك - يعدُّ الوقت هو الحياة: فينبغي أن ننتبه إلى ذلك، باعتبار أنّ الزمن الذي يعيشه الإنسان هو الحياة، وبانقضائه تنقضي حياته الدنيوية حيث لا يستطيع أن يُدرك ما يُريد أن يُدركه، وأن يحقق ما كان يصبو إلى تحقيقه، وبالتالي لن يستطيع أن يصل إلى مراده، فالوقت هو حياتنا، ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يفرط في حياته، وقد أكد القرآن هذه الحقيقة في قوله تعالى:
﴿وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[17].
وعن أمير المؤمنين(عليه السلام): (إنما أنت عدد أيام، فكل يوم يمضي عليك يمضي ببعضك)[18].
ومن الأمور المهمة- أيضاً- أن يختار الإنسان وقتاً مناسباً لبدء كل عمل فـ (الأمور مرهونة بأوقاتها)[19].
ولابدَّ أن يميِّز الإنسان بين العمر الزمني الذي يعيشه في هذه الحياة وبين العمر الإنتاجي وهو مقدار ما ينجزه الإنسان في عمره، وهذا -في الحقيقة- هو العمر الذي يُعتدُّ به، وهكذا كان حال علمائنا الأعلام الذين خلّفوا لنا إرثا فكرياً عظيماً بسنوات محدودة من عمرهم الزمني، وهذا هو العمر الحقيقي للإنسان، فعن أمير المؤمنين(عليه السلام): (الفرصة تمر مر السحاب، فانتهزوا فرص الخير)[20].
وللأسف الشديد، نرى الكثير من الناس يتعاملون مع الوقت على أنه شيءٌ غير ثمين وحينما تسأل الكثير منهم عن معناه، تجدهم يعبرون عنه بتلك الدقائق والثواني التي تمرُّ على الإنسان، والذي نعنيه نحن من الوقت هو غير ذلك، فما نعنيه بالوقت هو العمل والإنجاز الذي يتم في ذلك المقطع الزمني، وذلك بأن يحاول الإنسان أن يستفيد من المدة الزمنية التي يعيشها في إنجاز أعماله في أقصر وقتٍ ممكن، وبأقصى استفادةٍ، وعلى الإنسان أن يستثمر كل لحظةٍ حتى لا يضيع أيُّ مقدارٍ من الوقت مهما كان قليلاً.
ولنقف عند فقرة من فقرات دعاء أمير المؤمنين (عليه السلام) المعروف بدعاء كميل (يا ربّ أسألك بحقك وقدسك وأعظم صفاتك وأسمائك أن تجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة)[21] .
وأخرى من دعاء الإمام زين العابدين السجاد (عليه السلام) في طلب مكارم الأخلاق وهي فقرة تعالج مشكلة تعاني منها كل المجتمعات حتى المتحضرة فضلاً عن المتخلفة والجاهلة وهي مشكلة الفراغ وتضييع الوقت بلا تخطيط ، يقول (عليه السلام) لجعل الوقت منتجاً هادفاً : (اللهم صلّ على محمد وآله واكفني ما يشغلني الاهتمام به، واستعملني بما تسألني غداً عنه، واستفرغ أيامي فيما خلقتني له)[22].
فالإمام (عليه السلام) يبين أهمية الوقت ويدلنا على ما يجب أن نملأ أوقاتنا به، وهو ما يحقق الغرض الذي خلقنا لأجله.
فرأس مال الإنسان في هذه التجارة التي لن تبور: عمره ووقته وإضاعة أي لحظة منه بغير تحصيل الغرض المطلوب خسارة توجب الندامة.
ومما يزيد الحالة سوءاً أن البعض لا يكتفي بتضييع وقته وهدر عمره، بل يقوم بتضييع أوقات الآخرين بالأحاديث الفارغة والأعمال العبثية ويدفع الآخرين ليكونوا مثله.
نحن إذن أمام مسؤولية كبيرة وهي إدراك أهمية عمرنا وما يجب أن نستثمره فيه؛ لنحصل على الدرجات العالية وهذه حقيقة تكشف لنا واقعنا المؤلم لأن العمر يجري مع كل نفس ولا ينتظرنا، ويمر بسرعة قال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ)[23] .
وهنا أريد أن أوضح أن استغلال الوقت له قاعدة شرعية وهي أن الإنسان يجب أن يبدأ بالأعمال ذات الأهمية العالية ثم الأعمال المهمة، فالأقل أهمية، بحيث لا ينشغل بالشيء الأدنى عما هو أعلى، وبالمهم عن الأهم فضلًا أن ينشغل بالأمور التافهة عن الواجبات المطلوبة من الشريعة المقدسة، فأن الوقت أنفس شيء في الحياة؛ لذا عني به القرآن الكريم عناية فائقة.
[1] سورة العصر، الآيات:(1-3).
[2] سورة التكوير، الآية : (18).
[3] سورة الليل، الآية : (1-2).
[4] سورة الفرقان، الآية: (62).
[5] سورة الإسراء، الآية: (79).
[6] سورة آل عمران، الآية: (133).
[7] سورة آل عمران، الآية: (114).
[9] سورة المنافقون، الآية: (10-11).
[10] بحار الأنوار: 75/321.
[11] عيون الحكم والمواعظ، الليثي الواسطي: 39.
[12] الأمالي، الشيخ الصدوق:93.
[13] سورة النازعات: آية46.
[15] سورة الأنبياء: آية90.
[16] سورة آل عمران، الآية: (114).
[17] سورة المنافقون ، الآية : 11.
[18] عيون الحكم والمواعظ:178.
[19] بحار الأنوار: 74/165.
[20] عيون الحكم والمواعظ:69.
[21] مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي:849.
[22] الصحيفة السجادية:99.
[23] سورة الروم، الآية: (55).
|