عندما كانت إسرائيل تعربد في قطاع غزّة، فتدمر وتقتل المدنيين بكل إصرار، وتتمادى في عدوانها السافر، لم يكن أحد من الدول الغربية يفكر في تلك الجرائم، على أنّها مخالفة للقانون الدولي، بل كانوا ينظرون إليها على أنها دفاع عن نفسها ووجودها، حتى مبادرات الدول العربية من أجل وقف القتل العشوائي في غزّة، اصطمت بتعنّت القيادة الصهيونية، وجمود أمريكا في حلحلة موقفها، نحو اتفاق مقبول من الطرفين، ينهي معاناة المدنيين هناك، ويحرر ما بقي من أسرى لدي حماس والجهاد.
دول الغرب بطبيعتها مؤيّدة للسياسة الإسرائيلية طولا وعرضا، فما يعنيها سوى ما يريده هذا الكيان الغاصب، فهي من أسسته أوّلا سنة 1948، ومن دعمته ثانيا بالأموال والمستلزمات العسكرية، وأرسلت إليه مواطنيها من الأصول اليهودية أوّلا بأوّل، لذلك فإنّه واهم كل من يرجو عدلا وإنصافا من دول الغرب للقضية الفلسطينية، فقط عقلاء هذه الأمّة، من يعتبرون هذه الدّول مجتمعة عدوّة، لأنها بكل بساطة حليفة إسرائيل، وليست مستعدة للتفريط في كيان عنصري اسسته بمكر ودهاء، من أجل أن يكون لها قاعدة متقدّمة في قلب الأمّة الإسلامية.
ما يجب أن يُرى فيما يجري من مفاوضات، بشأن وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، وتعمّد تأخير امكانية حصول اتفاق بشأنها، فيه انتظار من الجانب الغربي الإسرائيلي أن يسفر عن نصر عسكري لفائدة حليفتهم إسرائيل، وبذلك تنتهي العمليات العسكرية في القطاع بالاستيلاء عليه كلّيا وانهاء وجود أي نوع من المقاومة فيه فوق الأرض وتحت الأرض، وهذا هدف صهيوني، تريد قيادته تحقيقه، مهما كلّفها من ثمن، مع أنه من الصعب من الجانب الإسرائيلي تحمل خسائر ثقيلة، كهذه التي لم يكونوا يتوقعوها، فهي لم تحصل لهم من قبلُ أبدا، وطوال وجودهم على أرض فلسطين، هذا باستثناء خسار القوات الإسرائيلية في لبنان، التي تكبّدوها أثناء اجتياحهم 2000 و2006.
بقية قوى محور المقاومة لم تبقى مكتوفة الأيدي، فقد قامت بأدوار متنوعة في مساندة عناصرها في غزّة، من جنوب لبنان ومن اليمن والعراق وسوريا، وجميع دول الغرب تدرك جيّدا، بل وهي متيقنة تماما، بأنّ وراء هؤلاء المقاومين تقف القيادة الإيرانية، مساندة وداعمة بكل ما تملك من قدرات، لحركات التحرر هذه، بإيمان وإصرار كبيرين، وهذا الموقف الداعم بقوّة هو من ارشاد وتوجيه قائد ثورتها الخميني، وتلقاه منه الخامنئي فهو قائد هذا المحور بحكمة واقتدار كبيرين حيّر أعداءه.
ضربات حزب الله التي وجهتها عناصره، إلى نقاط عسكرية محددة في شمال فلسطين المحتلة، كانت موجعة للقوات الصهيونية، زادت من ثقل نتائج المواجهة، وحرّكت الداخل الصهيوني الى التظاهر والاحتجاج على سياسة رئيس الحكومة ناتنياهو ومطالبته بابرام اتفاق ينهي الحرب، ما دفع هذا الأخير إلى الإقدام على مغامرة جديدة في جنوب لبنان، فهو قاب قوسين أو أدنى من السقوط السياسي والمحاكمة، ولن ينقذه من مصيره المحتوم سوى معجزة يحققها بانتصار ما سيحققه عسكريا حسب ما يؤمّل.
عدوان جديد على جنوب لبنان، يمهّد لاجتياح برّي متوقع من الجانب الصهيوني، يرى فيه ناتنياهو فرصته في انقاذ ما يمكن إنقاذه من مصيره المتأرجح بين تسجيل اسمه ضمن قادة الكيان الأوفياء الذين خدموا بإخلاص وتفان، أو أن يكون مصيره السجن، لسوء قيادته داخل إسرائيل نتيجة اخفاقه في سياساته وتعريض كيانه إلى خطر شديد، وتتبعه دوليا عن طريق محكمة لاهاي.
عيون مراقبي الدول الغربية مدركة تمام الإدراك، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي ارتكب حماقة بعدوانه على حزب الله وجنوب لبنان، فسارعت بالأمس الى تقديم مقترح هدنة ب21 يوما، قد ينقذ وجه ناتنياهو من التشوه الكامل، فقد (اقترحت فرنسا والولايات المتحدة الأربعاء هدنة لمدة 21 يوما في لبنان لمنع تصاعد التوتر بين إسرائيل وحزب الله. يأتي ذلك وسط تحذيرات دولية من حرب شاملة، وتأتي هذه المبادرة الفرنسية-الأمريكية بعد مباحثات مكثفة جرت على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وبعد لقاء ثنائي بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون).(1)
من هنا نفهم ويفهم كل نبِيهٍ، أن مقترح الهدنة يُراد منه الذهاب نحو وقف الحرب، نظرا لإنكشاف حقيقة لدى الجميع (الدول الغربية واسرائيل) أن المعركة لم تعُد تسير في صالح الغرب ولا في صالح صنيعتهم مفرطة الدلال، وأنّ هذا الدلال لم يعد ينفعها اليوم في شيء، ولا سبيل لإنقاذ قاعدتهم سوى بالمناورة السياسية، وتقديم مقترح وقف القصف قد يوافق عليه الحزب أو الحكومة اللبنانية، ما يجب ملاحظته هنا سرعة تقديم المقترح بما يفيد أن الأضرار التي خلفتها صواريخ المقاومة جسيمة وتتطلب وقتا وجهدا يجب توفيره بهذا الأسلوب الخبيث، لذلك فإنّه لا الحزب المبارك و لا الحكومة اللبنانية الوطنية يمكنهما أن يوافقا على المقترح، فقد اتُّخِذ القرار وانتهى الأمر، وعلى البادي تدور الدّوائر.
جبهة المقاومة ومحورها المبارك، سائران في اسناد قطاع غزّة، والإنخراط معها في مواجهة مصيرية واحدة، فهدف الجميع واحد لا يتجزّأ، وهو تحرير فلسطين، وإنهاء وجود كيان اسمه إسرائيل، مهما بلغت التضحيات والتكاليف، وقد شاهد العالم كيف تناغمت صليات الصواريخ والمسيّرات من لبنان والعراق واليمن وسوريا، وما هي إلا بداية معركة قد تطول وتستنزف قدرات تحمّل إسرائيل من الداخل، صحيح أن قدرات أمريكا ودول الغرب العسكرية واللوجستية، ستكون ضمن حسابات دعمها، لكنّ الجانب الآخر الذي لا تقدر على كبحه والتحكم فيه هذه الدول هو الوضع الداخلي المتأزّم من المستوطنين الذين انقلبت حياتهم من النقيض الى النقيض، واصبحوا في أوضاع لم يتعودوا عليها، ولا يمكنهم البقاء على هذا المنوال من عدم الإستقرار والخوف طويلا.
ذلك تريد دول الغرب مخادعة قادة المقاومة، بوقف حمم صواريخها على المواقع العسكرية لإسرائيل، وقد تتجاوز ذلك الحدّ لتشمل ردّا عنيفا على قصفها للمدنيين فتصيب بالمقابل من بقي من المستوطنين في حيفا وحتى تل أبيب، في هذه الحال ينعدم العيش هناك ويسقط حلم الوطن الآمن الموعود، وتتلاشى كل الآمال ببناء كيان استعماري أوسع كما تصوره متطرفو بني صهيون، ومعهم الرئيس الأمريكي السابق (دونالد ترامب)، الذي وسوس له شيطانه بفكرة توسيع مساحته(2)، بالإمكان القول اليوم، أننا نعيش أسوأ فترة تمرّ على إسرائيل، وستزداد سوءا يوما بعد يوم، هذا وعد إلهيّ يدركه أحبارهم، ولا يدركه أعرابنا المطبعون، الذين سوف لن يجدوا إسرائيل مستقبلا، وليس لهم من سبيل آمن، غير الخروج منها اليوم باختيارهم، قبل أن يُخْرَجوا منها مجبرين مكرهين.
المراجع
1– فرنسا والولايات المتحدة تقدمان مبادرة لوقف إطلاق النار لمدة 21 يوما في لبنان
2– ترامب مساحة إسرائيل صغيرة على الخريطة وفكرت مليّا في كيفية توسيعها
|