إننا لا نشك في أن نزول القرآن باللغة العربية دون غيرها من اللغات لم يكن عفوياً، بل كان لأسباب دقيقة منها:
1- وهو بكل تأكيد اختيار حكيم؛ لأنه من رب العالمين، ونحن نؤمن بوجود الحكمة في هذا الاختيار سواءً تبيَّنت لنا أسبابه أم لم تتبين.
2- إن خصائص اللغة العربية وقابلياتها الحيوية ومرونة تعبيراتها وسعتها وما إليها من مميزات من حيث الاشتقاق الصرفي، والايجاز، والخصائص الصوتية، وإمكانية تعريب الألفاظ الواردة تجعل اختيارها لغة للقرآن الكريم هو الخيار الصحيح .
3- جاء في الأحاديث إن اللغة العربية لغة عدد من الأنبياء العظام السابقين (عليهم السلام)، وقد كانوا يتكلمون بها، وقد جاء في بعض الروايات أن خَمْسَة أنبياء مِنَ الْعَرَبِ هم : هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَإِسْمَاعِيلُ ومحَمَّدٌ (عليهم السلام) ، وإن لغة النبي آدم (عليه السَّلام) حينما كان في الجنة كانت العربية حيث أنها لغة أهل الجنة، وستكون العربية لغتهم التي يتكلمون بها في الجنة فكل هذه الأمور مما ترجح و تدعم اختيار اللغة العربية لأن تكون لغة للقرآن الكريم.
تساؤل :وإذا كان حال وواقع هذه الأمة متخلف ثقافياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً ودينياً...فلما إذن اختارها الله سبحانه دون أمم وشعوب الأرض واختصها بأهم وأشمل وخاتم رسالاته...وهو الإسلام...ولماذا اختارها هي بالذات لينزل عليها وفيها أخر وأهم وأعظم كتبه وهو القرآن الكريم؟ لِمَ لم يختر الله أمة أكثر تحضراً وتمدناً ورخاء فتكون المهمة أسهل والأمة أقدر؟
يمكن أن نرد على هذا التساؤل بالنفاط الآتية:
1- إننا لن نستطيع ومهما حاولنا الإحاطة بحكمة الله في اختياره لأمة العرب لتكون موضع آخر رسالته ومهبط وحيه وقرآنه...ولا نحن نملك الحق أساساً في طرح مثل هذا التساؤل فنحن نسأل عما نفعل ولكن الله لا يُسأل عما يفعل، وهو يعلم أين يضع رسالته، وهو فعال لما يريد، وهذا في حد ذاته امتحان وفتنة من الله لنا.
2- الأمة إذا اشتهرت بمساوئها وتخلفها ولكنها بالدين وبالرسالة وبالقرآن فقط أصلح حالها وانقلب أمرها لتصبح من أفضل الأمم في زمانها...فعلامَ يدل هذا؟ إنها تكون معجزة تشهد على عظمة هذا الدين، وحكمة هذا الكتاب الذي صنع تلك المعجزة وأنشأ هذا الكيان من لا شيء ورفع تلك الأمة من هذا الانحطاط والضياع.
3- ومما لا شك فيه أن الأمة الخام ينتشر فيها الإصلاح أكثر وأشد وأسرع بكثير من الأمم الأخری، ويكون تأثيره أقوی فالأمة الأمية تتلقى الدعوة للعمل بصورة أكبر، وتنتشر فيها بصورة أشد من الأمة المتعلمة أو النصف متعلمة فهي تكون متعطشة له ومتلهفة، والدعوة للرفق واللين تنتشر أكثر في الأمة القاسية تماماً، وإن النور ينتشر أكثر وأسرع في الغرفة المظلمة منه في الغرفة المضيئة وكلما ازداد جفاف الحطب ازداد اشتعالا ً.
4- الأمة التي لم تتأثر بعد بالثقافات الإنسانية المختلفة التي هي في كثير من الأحيان منحرفة؛ لأنها من صنع الإنسان هي بلا شك الأرض الصالحة لتلقي حضارة الإسلام وثقافة السماء الآتية من عند الله مباشرة...فالصفحة البيضاء الخالية هي أصلح الصفحات للكتابة عليها دون تشويش من كتابات سابقة أو أثار من خطوط مندثرة...والأرض التي لم تزرع من قبل هي من أحضب الأراضي، وإن كانت في ظاهرها أرض بور لأنها تكون خالية من بذور النباتات الخبيثة التي تشارك النبتة الجيدة المرغوبة في غذائها وتحرمها من نموها الطبيعي؛ ولأنها تكون غنية ومحتفظة بخصوبتها الطبيعية في تربتها لم تستهلك ولم تستنفد من كثرة ما زرع فيها من قبل.
5- والإسلام بوصفه رسالة والقرآن بوصفه كتاباً جاء ليتحدی استكبار الإنسان وجبروته وعنصريته وماديته ونوازع الشر فيه، وينتصر عليها ومن ثم يظهر ضعفها وقلة شأنها، وإن تظاهرَ بالقوة والبطش والطغيان، وهذه المظاهر الإنسانية السيئة القبيحة تجلت كلها في أوضح صورة في هذه الأمة العربية الجاهلية، وتجلت بشكلها البدائي الخطير وغير المحكوم وغير المستأنس...فطبيعي جداً إذن أن يتوجه الإسلام لهذه المظاهر الشريرة في هذا المكان وتلك الأمة ليتحداها ويظهر قوتها وضعفها أمامك فلا شك أنك ستنتقي أقوی البشر بدناً وجسماً وأشرسهم لتطلب منازلته فإذا قهرته بكون قهرك له وقتها قهر لكل من هو أضعف منه جسداً وأقل منه شراسة دون شك.
6- وهذه الأمة العربية الجاهلية اشتهرت بالشجاعة والإقدام وحب القتال وعدم الخوف منه نظراً لطبيعة وظروف حياتها، والإسلام رسالة عالمية خاتمة موجهة لكل الناس في كل زمان ومكان وبديهي أنها ستواجه بعداوات لا حصر ولا عد لها من كل مكان، ومن ثَمّ فإنها ستحتاج في مواجهة هؤلاء الأعداء الكثيرين إلی شجاعة وإقدام من يحملها، وأن يكون مستعداً للقتال وغير هياب فطبيعي إذن أن نجد الرسالة تتوجه لهؤلاء الأقوام من العرب؛ لأنها ستجد فيهم هذه الصفة التي ستمكنهم من مقارعة أعداء الرسالة وحملها إلی كافة بقاع الأرض رغم أنوفهم.
7- والعرب كان لديهم علی مساوئهم العديدة مجموعة من الثوابت الأخلاقية الحميدة والجيدة مثل الوفاء بالعهد وبالكلمة، والكرم، وقوة الشخصية، والثقة بالنفس، والاعتزاز، والانتماء، والولاء، وصلة الرحم، والفروسية، والنبل، والحرص علی الشرف، والعرض، والكرامة...وهذه الثوابت الأخلاقية هي جزء من دعوة الرسالة، وهي بنفس الوقت ضرورية لعملية تقبل الرسالة والأخذ بها والتزامها ضروري لنشر الرسالة وانتشارها ولذا فطبيعي إذن أن تستفيد الرسالة من توفر هذه الأخلاقيات الكريمة لدی القوم فتنزل فيهم وتتنزل عليهم.
8- إن صعوبة المادة الخام المتمثلة في هؤلاء الأعراب وبداوتهم وبداءتهم وقسوتهم ومقاوماتهم لكل تغيير واستكبارهم وعنادهم وتعصبهم وماديتهم وشدة العداء المتوقعة من أمثالهم تجاه الرسالة السماء الخاتمة الخالدة كل هذا يخلق جواً ملتهباً شديد الحرارة كأفران صهر المعادن، ويُمحص ويبتلي ويُصهر ويُثقل ويُنقی ويطهر حتی يُخرج في النهاية خير وأفضل أمة أخرجت للناس، ويظهر بهذا عظمته وروعة الدين الخاتم والكتاب الكريم والخالق العظيم.
9- الله سبحانه يختار دائماً أنبياءه ورسله وأوصيائه وأولياءه من البسطاء والفقراء والمقهورين فهم سيأخذون بالرسالة إن كان حاملها مرموقاً محترماً لديهم ويستركونها إن كان هيناً ضعيفاً عندهم...فهم بالتالي إذن لا يبالون بالرسالة نفسها بقدر ما يبالون بأشياء أخر لا علاقة لها بالإيمان والرسالة وهذا ما لا يحبه الله ويريد أن يمتحن ويبتلي فيه وبالمثل أيضاً فإن الله عندما ينزل رسالته الخاتمة يبتلي الناس فينزلها علی أقل الأمم شأناً وأهونهم علی الناس ليبتلي هل سيتبع الناس في كل زمان ومكان الرسالة الخاتمة لمحتواها وصدقها امتثالا ً لأمر منزلها وخالقها أم أنهم سيرفضونها لمجرد أنها أنزلت في أمة متخلفة ضعيفة الشأن والوزن بين الأمم، لا حضارة لها ولا تاريخ ولا اسم.
10- لغة القوم وهى اللغة العربية هي أفضل اللغات بلا شك، وهى المناسبة على الإطلاق للإعجاز والجمال للقرآن الكريم، ومن كل ما سبق نستطيع أن نتبين ونعرف بعض أوجه الحكمة في اختيار الله سبحانه وتعالى لتلك الأمة العربية الجاهلية المتخلفة الفقيرة الكثيرة العلل، ولكي تكون موضع خاتم رسالته وخاتم رسله (ص) ومهبط وحيه وخاتم كتبه، ولن نستطيع أبداً أن نحيط بكامل حكمة الله ولكن الله يؤتى ملكه من يشاء والأرض له يورثها من يشاء من عباده، يرفع من يشاء ويضع من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء، وهو على كل شيء قدير، لا يُسئل عما يفعل وهُم يُسألون.
|