في القضايا العلميّةِ التي لَها موازينُها، لا مجالَ للعنديّاتِ وبثِّ التصوّراتِ، ومنَ الجنونِ أنْ ينطقَ الإنسانُ بِكلِّ مَا يخطرُ على ذهنِهِ في ميدانِ لا باعَ لَهُ فِيهِ، فُوجودُ نعمةِ اللّسانِ ليسَتْ مبرّراً لِلحطِّ منَ النَّفسِ، ولوضعِها في غيرِ موضعِها وإنزالِها في غيرِ منزلِها.
أمَا علمَ أنَّ مَن عرفَ قدرَ نفسِهِ فَهُوَ منَ المرحومينَ؟
والشرعُ قَد نطقَتْ نصوصُهُ بِالمنعِ مِن ذلِكَ كَما في الكافي: "عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام): مَا حَقُّ اللّه ِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قَالَ:"أَنْ يَقُولُوا مَا يَعْلَمُونَ، وَيَقِفُوا عِنْدَ مَا لَا يَعْلَمُونَ".
والعقلاءُ يلومونَ الخائضَ في غير ميدانِهِ، وفي كلِّ مجالٍ علميٍّ أعلامُ، فالفقهُ لَهُ أعلاُمهُ، والكلامُ كذلكَ، والسيرةُ ليسَتْ خارجةً عَن هذه السّننِ، فهي علمٌ منَ العلومِ، موضوعُها –عندنا- حياةُ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأهلِ بيتِهِ المعصومينَ الطّيبينَ الطّاهرينَ (عليهم السّلام أجمعين) ومنَ السيرةِ سيرةُ الإمامِ الحُسين (عليه السّلام)، ومِن حوادثِ حياتِهِ (سلام الله عليه) هي قضيةُ كربلاء وموقفه فِيها الذي يُحيي مَن أحياهُ في كلِّ عامٍ، فَالقضيّةُ الحُسينيةُ ليسَتْ قاصرة عَن تغطيةِ ما يحتاجُهُ طالبُ الحقيقةِ التي أظهرَها الإمامُ المظلومُ الشّهيدُ (سلام الله عليه) ومَن يريدُ التعرّفَ على أهدافِهم ما جَرى على أهلِ البيتِ (عليه السلام)، في ذلِكَ الموقفِ الذي حظيَ بِالعنايةِ الكبيرةِ مِن قبل أنْ يولدَ صاحبُهُ (صلوات الله عليه) في هَذهِ الدُّنيا، بَل مِن زمنِ الأنبياءِ (عليهم السّلام)، وحتى قبلَ هَذهِ الدُّنيا وهذا الأمرُ منَ الواضحاتِ.
فهذا أحمد بن حنبل يروي أنَّ العنايةَ بهم قبلَ هذا العالمِ، فقَد نقلَ في تذكرةِ الخواص 46: فقد روى عن سلمان، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه [وآله] ـ : « كنت أنا وعلي بن أبي طالب نوراً بين يدي الله تعالى ، قبل أن يخلق آدم بأربعة آلاف عام ، فلما خلق آدم قسم ذلك النور جزأين ، فجزء أنا وجزء علي ».
ومَن أرادَ التوسّعَ فعليهِ بِالكُتبِ التي عَنيَتْ بِذلكَ، كَكُتبِ المقاتلِ وكُتبِ التاريخِ التي ذكرَتْ واقعةَ كربلاء ومَا حدثَ فيها، وهي عديدةٌ وكثيرةٌ ومتنوّعةٌ، وعليهِ كذلكَ بِكُتبِِ نفيسةٍ أُخرى عَنيَتْ بِعاشوراء الحُسين (عليه السّلام) مِن جهاتٍ أُخرى، فَلِكُلِّ مؤلّفٍ داعٍ دعاهُ لِكتابةِ سِفرِهِ، وهوَ الذي يدورُ حولَهُ موضوعُ كتابِهِ، وعلى أساسِهِ تُجمعُ النُّصوصُ، وتُذكرُ المطالبُ.
ومِن أبرزِ هذه الكُتبِ التي كتبَتْ في حقبٍ مُتباعدةٍ، ولكلِّ كتابٍ مِنها جهةٌ يبحثُها، ونذكرُ -على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ- كتابَ كاملِ الزياراتِ لابن قولويه القمّي (رحمه الله) وما كتبَهُ تلميذُهُ الشيخ المفيد (رحمه الله)، وكتابَ الخصائصِ الحُسينيّةِ والأيّامِ الحُسينيّةِ للشيخ التستريّ (رحمه الله)، وكتابَ مقتلِ الحُسين (عليه السّلام) -وكتبه الأخرى- للسيّد عبد الرزاق المقرّم (رحمه الله)، وكتابَ فاجعةِ الطفِّ لفقيهِ أهلِ البيت (عليهم السّلام) المرجع الكبير السيد محمّد سعيد الحكيم (رحمه الله)، وغيرها الكثيرُ مِن كتبِ العلماءِ الأعلامِ.
فَعلى الذي يرومُ تناولَ أيّ مسألةٍ مِن مسائلِ عاشوراء مطالعةُ الكتبِ التي كتبَتْ حولها، مطالعةُ رواياتِها وتحليلُها والاستفادةُ من إفادات علماءِ الطائفةِ (رحم الله الماضين وحفظ الله الباقين) مِن خلالِ ما كتبوا ومَا قالوا ولا يستقلّ بِنفسِهِ في فهمِ العباراتِ، فَالاستعانةُ بالخبير والنتائج التي توصَّلَ إليها سيبلُ النَّجاةِ.
ولا يركنْ لِما شذَّ منَ الأقوالِ بِلا حجّةٍ، وبعدَ هذا يمكنُ أنْ يكونَ لديهِ شيءٌ منَ الفهمِ عَن حادثةِ كربلاء ومَا جَرى فيها، ويعرفُ معالمَ شخصيّاتِها ومراتبهم والحوادثَ التي وقعَتْ، ومواقفَ مَن شهدَ تِلكَ الواقعةَ، عندَ ذلِكَ يستطيعُ أنْ يلقيَ كلمةً علميّةً دقيقةً سليمةً في القضيةِ التي هُوَ بِصددِ معرفتِها وإيضاحِها، أو يلقيَ خطاباً نافعاً، أو يكتبَ شيئاً منَ النثرِ أو الشعرِ حولَ شيءٍ مِنها، فَتجدُهُ يطالعُ ما كتبَهُ أعلامُ الأدبِ الحُسينيّ الغني غاية الغنى، ولكلِّ علمٍ مِنهم لونُهُ ومرتبتُهُ، أو يريدُ أنْ يكونَ راثيّاً لهم (عليهم السّلام) مذكّراً بِما جرى عليهم وحرمات الله (تعالى) التي انتهكَها الظالمونَ، فيراجعُ أعلامَ ميدانِ الرِّثاءِ، ولكلّ منهم طريقتُهُ ولونُهُ، إلّا أنَّ هناكَ ما يجمعُهم ليشكِّلُوا لوناً عامّاً واضحاً في ميدانِ الرِّثاءِ، أو أنّهُ يرومُ السيرَ على مسيرةِ مَن يعلّمُ غيرَهُ وهكذا، أو ينصّبُ نفسَهُ لتربيةِ مجموعةٍ من طلابِهِ أو مَن يُحبُّ أنْ يسمعَ لهُ، وبعدَ مراجعةِ الميدانِ الذي يريدُ أنْ يكونَ فيهِ.
فلا بُدَّ أنْ يكونَ تابعاً لما يجدُ منَ الحُججِ، والحججُ تختلفُ مِن علمٍ إلى علمٍ مِن جهةِ القطعِ، فَالحُجةُ في علمِ الفقهِ غيرُ الحجةِ في الأصولِ، وليستْ هي التي تكونُ في علمِ التاريخِ والسيرةِ وهكذا.
وليتقِ الله (تعالى) في رعايةِ عدمِ القولِ بِغيرِ علمٍ، أو القياسِ ومَا هو مِن قبيلِ ذلك، ولا يؤسسْ من عنديّاتِهِ، فَلا مجالَ للعندياتِ في قضايا عاشوراء، إنّما العنديّاتُ لها ميدانُها ولها أهلُها نستجيرُ بالله (تعالى) مِنها ومِنهم.
أمّا مَن يريدُ أنْ يخدمَهم (عليهم السّلام) بصدقٍ وإخلاصٍ ويروّجُ لهم فميدانُهُ ميدانٌ لهُ موازينُهُ وتعاليمُهُ وأحكاُمهُ التي يجبُ متابعتها، فالأمورُ الخاصّةُ بِهم ليسَ لأحدٍ أنْ يدخلَ عندياتِهِ فيها، فهم لا يقاسُ بهم أحدٌ منَ النَّاسِ كَما وردَ.
|