لا يمكن فصل أحداث كربلاء عن أساسها الذي أراده الله لها، ولا أن يكون فهم الإمام الحسين عليه السلام على أنّه شخصية منفصلة عن موقعها الذي أحلّه الله جلّ شأنه فيه، واقعا تحت تأثير من اشتبهت عليهم حقيقته، ولا الغاية التي أراد الله لها قبل إرادته هو، أن تستقرّ مقاصدها في قلوب المؤمنين، هذا الترابط في الفهم يُمكّننا من تحصيل حقيقة هذا القائد الفذّ، والغاية من مسيرته الخالدة، فليس كل من كتب عن حياة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وأرّخ عن كربلائه مصيبا فيما ذهب إليه، خصوصا أولئك الكتّاب والمؤرخين الذين لا يرون عصمته كإمام هدى، أراده الله أن يكون حاملا أحكام ودستور دينه، وسنن جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله، عاملا على حفظهما ونشرهما، وتطبيقهما تطبيقا سليما، مسدّدا بملكة الإلهام، ما يمنع عنهما تحريف المحرّفين.
صانع الحدث - أوّل ثورة إسلامية إصلاحية - لا تزال تداعياته وآثاره متواصلة إلى اليوم - رغم وضوح ما جاءنا بشأنه عن جدّه أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله - بقي شخصيّة إسلامية، محاطة بألغام سوء فهم الكثيرين، ممّن غابت عنهم مقاصد كلمات الوحي بشأنه - أو قُلْ غُيّبت عنهم - بسبب الثقافة الدينية المُشَوَّهة، التي قام الأمويون بنشرها وفرضها على المسلمين، وبذلوا قصارى جهودهم في تثبيتها، كأمر واقع في المساجد - خُطَبُ جُمعات وحلقاتُ قصاصين - من أجل إعفاء فضائل أهل البيت عليهم السلام، ومسْح أيّ أثر لها بقلبها وتزويرها، وكان نصيب الإمام الحسين عليه السلام المستهدف من ذلك البيت الطاهر، كنصيب أبيه وبقية أهله عليهم السلام، الإقصاء والإستبعاد من موقع السلطة والحكم، والبناء على ذلك الإقصاء بالأقوال المتردّدة على منابر أدعياء العلم: انّ الإسلام ليس دين سياسة، وهو فقط تربوي أخلاقي، لا يرتقي إلى أكثر من ذلك.
ونجح الأمويون في تغييب الشخصية الحقيقية للإمام الحسين عليه السلام، كما نجحوا في تحويل أبيه من سيف الله المسلول على المشركين، وصاحب راية النصر في كبريات غزوات النبي صلى الله عليه وآله، حبيب الله ورسوله صلى الله عليه وآله كما أخبر عنه في خيبر، وما أدراك ما خيبر، إلى شارب خمر صلى بالناس سكرانا(1)، وغدا بخبث تلك التحريفات، أن أصبح الرجل يسال عنه: هل شهد عليّ بدرا؟ (2)، تشويه وصل بمبتدعيه إلى الدعاء عليه وأهل بيته، ولعنه على منابر المساجد، بدعوى أنّه خارج على اجماع المسلمين.
ولم يكن نصيبه من تلك الحملات الشعواء، بأقل من نصيب أبيه وأخيه الامام الحسن عليهم السلام، أرقى ما بقي في محصّلة عموم الأمّة الإسلامية، أنّه صحابي صغير مات جدّه وعمره لا يتجاوز السبع سنوات، وبذلك استبعد الحفاظ النقل عنه، شأنه في ذلك كغيره من صبيان ذلك العصر مساواة بهم، فكان سلب شخصيته موقعها في الإسلام، وبليغ ما جاء بشأنه من وحي جدّه صلى الله عليه وآله، مقدّمة لحجب حقيقته كإمام مفترض الطاعة، إذا نهض لأمر تبيّنت له صحّته، فعلى الجميع اتّباعه دون أدنى شكّ.
يكفينا هنا في بيان حقيقة شخصيته ما شمله قوله تعالى: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (3) وإرادة الله هنا متحقّقة في اذهاب رجس الشيطان عن أهل البيت، وتأكيد طهارتهم دليل على عصمتهم من الذنوب والمعاصي، وسيرتهم التي نُقِلت عنهم كافية للدلالة على خصوصيتهم التي حازوها علما وعملا، باعتبارهم صفوة الله في هذه الأمّة، وكان من سُنَنِه اصطفاء خير خلقه من كل أمّة، والاقرار بملكة العصمة هنا، لا تترك مجالا لمبرّر يدفع إلى عدم اتّباعه، بل وتجعل منه قدوة مضمونة النتائج في كل الحالات.
أما قول النبي صلى الله عليه وآله: (حسين مني وأنا من حسين أحبّ الله من احبّ حسينا حسين سبط من الأسباط)(4) ففيه دلالة عظيمة، على خصوصية للإمام الحسين عليه السلام، لم ينلها غير أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام عندما قال له: (أنت مني وأنا منك)(5) ونسبة علي وابنه الحسين للنبي صلى الله عليه وآله معلومة بالتأكيد، من جهة كون أصولهما تعود إليه نسبا وقيمة معنوية، وهي بالنسبة لعموم المسلمين من المعلوم بالضرورة، أمّا قوله: وأنا من عليّ والحسين عليهما السلام، فدلالة على أنهما وريثاه في حمل علومه، والمكلّفان بحفظ أحكام دينه، وأمانة نقلها إلى الناس صافية المّعِين، لا كدر يُمكن أن يُصيبها من محرّفي الكلم عن مواضعه، ولم يكن قوله تعالى: ( إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون) (6). سوى تِبْيانٌ وتوضيحٌ لمرحلتين أساسيتين في مسيرة الإسلام، مرحلة التنزيل عن طريق النبي صلى الله عليه وآله، ومرحلة الحفظ عن طريق الإمام الهادي مستودع تلك العلوم، وليس عن طريق أيّ كان، ذلك أن الدين له أهله: (فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون) (7) فمن خذل الإمام الحسين عليه السلام في محنته يوم عاشوراء، فقد خذل الله ورسوله صلى الله عليه وآله، ومن نصره فقد نصر الله ورسوله صلى الله عليه وآله، ومن حاربه فقد حارب الله ورسوله صلى الله عليه وآله دون أدنى شكّ.
أما قول النبي صلى الله علبه وآله: (الحسين مصباح هدى وسفينة النجاة) (8)
ففيه دلالة عظيمة على أن نهج الإمام الحسين عليه السلام، هو امتداد لنهج جدّه وأبيه وأخيه، صراط هداة الأمّة الإسلامية، بل والإنسانية جمعاء، فمن تمسّك به هُدِيّ إلى صراطه المستقيم، ومن ركب سفينته، بعدما عرّفها جدّه بأنّها سفينة نجاة من الغرق في أبحر الضلال، فقد نجا وفاز باتّباعه، وكذلك كانت سيرته طوال حياته، سيرة إمام هدى لم تُعْرَف له زلّة يُوسَمُ بها، وختمها بشهادة مثّلت قمّة فداء قُدِّم للدين، حرّكت مشاعر أحرار الأمّة، ودفعت بهم إلى الإعتبار من يومه الذي قضى فيه نحبه، باذلا فيه نفسه وأهل بيته وخيرة أصحابه، واتخاذ الأمّة من بعده مسيرته - التي أراد بها الإصلاح في أمّة جدّه - مُسْتَلْهّمًا للثورة وشعارا للتغيير، في أي زمن من أزمنة تحريف، قد يطرأ على الدين من طرف الظالمين.
لقد تعلمنا من الامام الحسين أن الحياة تحت ظل الظالمين بَرَما (إني لا أرى الموت الا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما) (9) فموت العز خير للحرّ من حياة الذّلّ، وهذا منطلق رحلة الإباء ونبذ حياة عبيد الدنيا، قد جذبت لها في كل زمن من الأزمنة أتباعا خُلّصا، تسابقوا نحو تغيير حال الأمّة، من الرضا بالدون وحياة الذّلّ وقبول الظلم، بدلا عن أحكام الله العادلة، إلى التضحية بالنفس من أجل حياة العز والكرامة، وفي كل جيل ظهر رواد اصلاح وتغيير، اقتداء بالإمام الحسين عليه السلام، ونحن نرى اليوم أنّ قوّة واقتدار وعزّة إيران هي من عاشوراء وكربلاء، فطوبى لمن سلك نهج هذا المصلح العظيم، وهنيئا لمن نال أحدى الحسنيين في أثره الخالد، خلود صراع الحق ضد الباطل، وقيام المصلحين والثوار خرّيجي مدرسته، ما تزال أبواب معارفها مفتوحة معطاءة لمن قصدها، تعطيه من معين الامام الحسين عليه السلام مثلا من كل فضيلة.
المراجع
1 – سنن الترمذي أبواب تفسير القرآن باب ومن سورة النساء ج5ص120ح3026
2 – جامع أحاديث البخاري كتاب المغازي باب قتل أبي جهل ج5ص75ح3970
3 – سورة الأحزاب الآية 33
4 – سنن الترمذي أبواب المناقب ج6ص118ح3775
5 – جامع أحاديث البخاري كتاب المغازي باب عمرة القضاء ج5ص141ح4251
6 – سورة الحجر الآية 9
7 – سورتي النحل الآية 43 والأنبياء الآية 7
8 – فرائد السمطين الشيخ إبراهيم الجويني ص 42
9 – مجموعة ورام ورام بن ابي فارس ج2ص102
|