أرادت سلطة الائتلاف المؤقتة البقاء على عراقٍ ممزقٍ يعيش الفوضى، فاقد للامن والسلم الأهلي، فلا توجد نية لتسليم السلطة السياسية للشعب العراقي. لم يستطع سياسيو بغداد مواجهة الحاكم المدني پول بريمر، لضعفهم والانشغال بالاستحواذ على مناصب تنفيذية.
سخّر السياسيون، تحت سلطة الائتلاف المؤقتة؛ كل جهدهم كان البحث عن مغانِم كانوا يحلمون بها. يقول الحاكم المدني پول بريمر في مذكراته (عام قضيته بالعراق): "أنشغل السياسيون بتقسيم الحصص، قسمٌ من القادة كانوا يبحثون عن المناصب الحكومية للسيطرة على مقدرات البلد"، والذي ساعدهم الحاكم المدني لتدمير العراق.
في كل تحركات الحاكم المدني، كانت المرجعية العليا، السيستاني، حاضرةً، و في كثير من الاحيان كان السيستاني يعبّر عن "قلقه الكبير بشأن الغايات الامريكية". (راجع صحيفة واشنطن بوست Iraqi Shiite Leader Uneasy With U.S. Role، بتاريخ ٢٣ حزيران ٢٠٠٣)
هذا ما دفع المرجعية بإرسال رسائل تهديد الى سلطة الاحتلال في"فسح المجال امام العراقيين ليحكموا بانفسهم من دون تسويف او مماطلة". (راجع صحيفة لوس انجلوس تايمز U.S. Ignores This Ayatollah in Iraq at Its Own Peril في ١٦ تشرين الثاني ٢٠٠٣).
كان پول بريمر يقرأ مواقف السيستاني بحذر. قرر إنشاء مجلس حكم يتكون من ٢٥ عضو (١٣ من الشيعة، ٥ من السنة، ٥ من الاكراد، مسيحي آشوري واحد، وتركماني واحد).
لكن نيّة الحاكم المدني كانت مبيّتة …
يستحضر السيستاني موقف المرجع أبو الحسن الاصفهاني (قدس الله سره) بحرمة انتخابات مجلس تأسيسي عراقي للموافقة على المعاهدة البريطانية - العراقية التي تم توقيعها في القاهرة في ١٩٢٢.
الاتفاقية البريطانية - العراقية هي إتفاقية عقدت بين المملكة المتحدة و مملكة العراق، حيث تم توقيعها من قبل بيرسي كوكس كممثل لبريطانيا وعبد الرحمن الكيلاني النقيب كممثل للعراق. أتفقوا على إعتراف بريطانيا بمملكة العراق والإعتراف بالملك فيصل الأول كملك على العراق مقابل بقاء العراق تحت سلطة الإنتداب البريطاني وإدارة بريطانيا للشؤون الخارجية والعسكرية.
اتخذ المرجع الأصفهاني موقفاً معارضاً من هذه الاتفاقية، مما دفعه لاصدار فتوى بتحريم انتخابات المجلس التأسيسي ليقطع دابر الموافقة على المعاهدة.
السيستاني كان يخشى ان يتحول مجلس الحكم الى نفس دور المجلس التأسيسي في ١٩٢٢، ليُنفّذ رؤية سلطة الائتلاف المؤقتة. فهِمَ مجلس الحكم رؤية السيستاني مما دفع أعضاء المجلس لان يتجهوا الى النجف للعمل برؤية المرجعية التي رفضت كتابة دستور مؤقت قبل الانتخابات.
علِم الحاكم المدني بالقوة المعنوية للمرجع وسلطته الغير رسمية على مجلس الحكم، مما جعله لان يُعلن بان مجلس الحكم سيكون حكومة مؤقتة تعمل بوصفها حكومة انتقالية بالتعاون مع سلطة الائتلاف والممثل الخاص للامم المتحدة الاخضر الابراهيمي، بموجب أمر سلطة الائتلاف الحاكم رقم ٦، حتى يتم كتابة الدستور المؤقت وإجراء انتخابات، لتشكيل حكومة دائمة.
في ٢٣ آذار ٢٠٠٤، نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالاً: "النضال من أجل العراق: السياسة؛ آية الله الشيعي يحذر الأمم المتحدة من المصادقة على ميثاق ترعاه الولايات المتحدة"، (The Struggle for Iraq: Politics; Shiite Ayatollah is Warning U.N. Against Endorsing Charter Sponsored by U.S).
يذكر المقال: "حذر رجل الدين الشيعي الأكثر نفوذاً في العراق، السيستاني، من عواقب وخيمة إذا أيدت الأمم المتحدة الدستور المؤقت الذي ترعاه الولايات المتحدة لعراق مستقل والذي تم تبنيه على خلفية الاحتجاجات الشيعية قبل أسبوعين".
ثم يسترسل المقال: "جاء التحذير في رسالة صارمة مضمونها "الدستور المؤقت لا يحظى بتأييد معظم الشعب العراقي".
بعد أربعة أيام من تسليمها في نيويورك إلى الاخضر الإبراهيمي، كبير مبعوثي الأمم المتحدة إلى العراق، نشر مكتب السيستاني الرسالة، حيث طالب بأن يتم الوفاء بالشروط في عدم تبني الدستور المؤقت. قال السيستاني في رسالته من أنه سيقاطع لقاء السيد الإبراهيمي، "رافضًا المشاركة في أي اجتماعات أو مشاورات يجريها هو أو مبعوثوه، ما لم تقدم الأمم المتحدة ضمانات بعدم موافقتها على الدستور المؤقت".
مارس السيستاني كثيراً من ضبط النفس من اجل المصلحة العليا للعراق واستقلاله والحفاظ على سيادته. كان يركز على شرعية العملية السياسية وتصحيحها، والحفاظ على الديمقراطية الوليدة، دون التواصل مع قوات الاحتلال، وهذا ما أثار غضب البيت الابيض.
في ٢٨ تشرين الاول ٢٠٠٦، نشرت صحيفة واشنطن بوست مقالاً بعنوان: "آية الله العظمى خلف الستار"، (The Grand Ayatollah Behind the Curtain).
يذكر المقال: كان السؤال الموجه هذا الأسبوع إلى المكتب الصحفي لمجلس الأمن القومي صريحاً: "هل التقى آية الله العظمى علي السيستاني بأي مسؤول أمريكي، عسكريًا كان أم مدنيًا، منذ الغزو الأمريكي عام ٢٠٠٣؟"
قال فريدريك جونز، مدير الاتصالات في مجلس الأمن القومي الامريكي، "السيستاني لم يلتقِ بأي مسؤول أمريكي".
يسترسل صاحب المقال: "ولكن قد تسأل كيف يمكن أن يكون ذلك؟ بعد كل شيء، منذ أن تم هدم تمثال صدام حسين في عام ٢٠٠٣، زار الرئيس بوش العراق مرتين. نائب الرئيس تشيني كان هناك أيضًا. استدعى وزيران مختلفان للخارجية - كولن باول وكوندوليزا رايس - مع وزير الدفاع دونالد رامسفيلد لزيارة العراق، وعدد لا يحصى من كبار قادة البنتاغون وعدد كافٍ من أعضاء مجلس الشيوخ وأعضاء مجلس النواب الأمريكيين. كلهم لم يلتقوا بالسيستاني. الغريب أن تسمع أشخاصًا في واشنطن يتحدثون عن آراء السيستاني كما لو أنهم انتهوا للتو من الاتصال معه".
وهذا جاء مطابقاً لأستفتاء فيما اذا كان هناك تواصل بين السيستاني والقوات المحتلة:
سؤال: لماذا لم يلتقِ سماحتكم بالسفير بريمر الحاكم المدني للعراق عند زيارته لمدينة النجف الأشرف؟
الجواب: لقد طلب الحاكم المدني مقابلة سماحة المرجع، كما طلب مثل ذلك من قَبْل الجنرال غارنر، وطلبها أيضاً مؤخراً نائب وزير الدفاع الموجود حالياً بالعراق، ولكن سماحته لم يجد ما يستدعي مثل هذه اللقاءات. (راجع كتاب "النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية" للاستاذ حامد الخفاف، وثيقة رقم ٢١ جواب رقم ٦).
أستعمل الحاكم المدني سلطة الاحتلال لِكسر هيبة مقام المرجعية العليا بلقائها، لكن إرادة المرجعية حطّمت شوكته، وخلعت قانونية الاحتلال تحت قبة مجلس الأمن بغزوها للعراق، فكان صهيل صراع الإرادات يصدح في فضاء المجتمع الدولي، ليواجه السيستاني "بمفرده" خطط الاحتلال الامريكي.

|