• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الإمامُ الحُسينُ (عَلَيْهِ السَّلامُ) وَالفَناءُ المُطلق في ذاتِ اللهِ تَعَالى .
                          • الكاتب : د . اكرم جلال .

الإمامُ الحُسينُ (عَلَيْهِ السَّلامُ) وَالفَناءُ المُطلق في ذاتِ اللهِ تَعَالى

 الإمامُ الحُسينُ (عَلَيهِ السَّلامُ) هوَ ثِقْلُ اللهِ وَخَليفَتُهُ في الأرضِ، وَهُوَ الإنسانُ الكامل؛ خَيرُ مَن عَلى البَسيطة؛ بَلَغَ أعلى مَراتبَ القُرب الإلهي وتجلّى ذلك في دعائه وسلوكه وارتباطه بالله عزّ وجل؛ بَلَغَ في سَيْره نَحو الله تعالى أرفع مراتب المعرفة الشهوديّة، وأيْقَنَ (عليه سلام) أنّ السرّ والحقيقة إنّما تتجلّى وتتكشّف من خلال التدرّج في مقامات معرفة الله عزّ وجلّ؛ فَمَن غيره أعرف منه بالله بعد جَدّه وأبيه؟ وهو القائل في دعاء عرفة: (إلهي قد علمتُ باختلاف الآثار، وتنقّلات الأطوار، أنّ مرادك منّي أن تتعرّف إليّ في كلّ شيء؛ حتّى لا أجهلك في شيء 1). وهذه الفقرة من الدعاء تكشف عُمق الإرتباط بين العبد وربّه، وتعكس فلسفة خَلقِ الخَلق، والتي يبيّنها الحديث القدسي: (كنتُ كنزاً مخفيّاً، فأحببتُ أن أُعرف، فخلقتُ الخلقَ لكي أُعرف 2)، قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].

إنّ للمعرفة مقامات ومراتب قد أوضحها الإمام سلام الله عليه فعن أحمد بن إدريس عن الحسين بن عبيد الله عن الحسن بن علي بن أبي عثمان عن عبد الكريم بن عبد الله عن سلمة ابن عطا عن أبي عبد الله " ع " قال: خرج الحسين بن علي عليهما السلام على أصحابه فقال: (أيها الناس ان الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه، فقال له رجل: يا بن رسول الله بأبي أنت وأمي فما معرفة الله؟ قال معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته 3)، فالآية الكريمة وحديث الإمام الحسين (عليه السلام) لهما دلالة واضحة على أنّ العبادة فرع المعرفة، فالأصل هي المعرفة، وأنَّ العبد كلّما تدرّج في مقامات المعرفة كلّما ازدادت عبادته وكثرت طاعته.

وحيث أنّ الله تعالى قد فَطَرَ الناس على معرفته، قال تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30]، فيكون لدينا إذن معرفة مكتسبة ومعرفة ذاتية؛ والنَّفس الإنسانية كلّما طَهُرَت وتزكّت أصبح سيرها نحو التّكامل المعرفيّ أسرع، وعندها تكون العبادة أوسع. ثمّ إنّ الإخلاص في الطاعات والعبادات له أثر جوهري في تعميق البُعد المعرفي بالله تعالى، فلو أنّ المؤمن واضب  واجتهد في إخلاصه فإن ذلك سيكون سبباً في تطهير القلوب وإزالة العوالق، وعندها ستتعمّق معرفة الله في القلوب أكثر.

إذن، الغاية التي من أجلها خلق الله تعالى الإنسان، وهذا الكون الفسيح، هو الوصول إلى مراتب تمتزج فيها المعرفة بالعبادة الحقّة (الحب والإخلاص)؛ وحينها فقط يُحلّق المؤمن بهذين الجناحين ليتدرّج في مراتب المعرفة الشهوديّة؛ وذلك لأنّ تجلّي الحقّ من مقام الغيب، ومن ثم ظهوره، يكون على هذه الأسس، ولولا المعرفة والاخلاص والحب لما بَلَغَ أحد مقام القرب من الله تعالى. 

ورغم أن الإمام هو ذاته سبب لبلوغ المعرفة، فقد كان (عليه السلام) إنموذجًا في طيّ المراتب والوصول إلى الحقيقة التي اكتملت لديه بأعلى درجات المعرفة والطّاعة والعشق، مراتبٌ ومقامات لم يبلغها أحدٌ قبله من العالمين، سوى جدّه وأبيه وأمه وأخيه. 

وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ المعرفة العقليّة لا يمكن أن تكون عاجزة بنحو مطلق في الأخذ بيد المريدين، فالتّدرج في معرفة أسماء الله تعالى وصفاته  هو باب مفتوح للسالكين، وفي ذلك يقول الإمام الحسين (عليه السلام): (لا تدركه العلماء بألبابها، ولا أهل التفكير بتفكيرهم، إلاّ بالتحقيق؛ إيقاناً بالغيب 5).

واليَقينُ لَه مَراتِب ثلاث: عِلْمُ اليَقين وَعَينُ اليَقين وَحَقّ اليَقين.

فَأما عِلم اليَقين، فَهو ما يَحصل للسّالك عند النَظَر والتَفَكّر بالدّلائل، كالّذي يَرى دخاناً فَيَعلَم بعلم اليقين أنّ مَصدَره نارٌ أي إنّه انكشاف المَعلوم للقَلب بَعد النَظر والتَّفكر. ثُم يُكمِل السّالك الدَّرب بِهِمَّة وكَدحٍ وجِهاد ويَقين نَحوَ المَرتبة الثانية وهي عَينُ اليَقين، قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْـمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]، وهذه المَرتبة تُشير إلى المَنزلة المَعرفية التي يَصل إليها السّالك من خلال الكّشف والمُشاهدة والاطمئنان القَلبي، ولا تُدرك إلّا من خلال التَجرّد المُطلق للنّفس، فَمُشاهدة النار هو عَين اليقين، أي أنَّه العلم بالكشف والمعاينة لأصحاب القلوب المُطمأنه من خواص المريدين للذات المقدّسة، يَبلُغ فيها السالك مَرتَبَة المُشَاهِد لَهُ فلا يَشُك فيه أبداً.

وأما المَرتبة الأعلى، وَهِيَ حينما يَصِلُ السّالك إلى مَرتَبةً يَعيش فيها الاحتراق، إنَّها مَرتَبة حَقّ اليَقين، إنَّه الارتباط الرّوحي والفَناء في اللّه لأهل الشُهود، فَحَقُّ اليَقين هِيَ مَرتَبَة الوَحدَة المَعنويّة والارتباط الحَقيقي بين العاقِل والمَعقول فَيَرى العاقل ذاتَه مُرتَبِطة بالمَعقول مُتَنَعمة بآثاره وَفُيُوضاته، وأنّ شُؤونَ الدُنيا والآخرة بين يَديه واضحةٌ جَليّةٌ، وخاضِعَةٌ طائِعةٌ.

وحينما يبلغ القَّلب أعلى المقامات المعرفية فإنها تتحول إلى أنوارٍ قُدسيّة من نُور الله وَشَمسٍ يَقينيّة من فُيُوضات الكَمال المُطلق، وحينها، أينما أتّجه العارف وَنَظَر وَفَكّر فأنه سَيَرى كلَّ الأشياء بنور شُعاع قَلبه وَيُبصِر حَقائق المَلكوت وخَفايا الدُنيا والآخرة وحقائق الأشياء وأسرارها بذلك النور الذي هُو مِن مَصدَر الكمال المُطلق؛ ولأنّها أرفع دَرَجات اليقين وأعلى مَراتِب الكَمال، فإنَّ مَن أدرَكَها وَنال فُيُوضاتها هُم خَواصُ الخَواص.

فالأنبياء (عليهم السلام) مَعَ ما لَهُم من عَظيم المَنزلة عِند اللّه تعالى، فإنَّ مَراتِبَهم مُختَلفة، حيث كانوا يَتَفاضَلون على مراتب القرب من حَقيقة حقّ اليَقين؛ فَمِنهُم مَن أدرَك عِلْمَ اليَقين وَمِنهُم مَن سارَ وجاهَدَ نَفسه وارتَقى بعد أن قَطَع المَسافات وَنَظَر فَعَلِم فَاسْتَوَتْ عِبادَته ظاهِرَها وباطِنَها وكانَ عِنده الزيادة والنُقصان والفَقر والرزق والحياة والممات كُلّها سَواء؛ لانّها جميعاً مِن مَصدَر واحد. 

فاليَقين الذي تَحلّى به سيد الرسل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يبلغه أحد من البشر، وهو أعلى درجات حق اليقين، قال تعالى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلّى * فَكَانَ قَابَ قَوسَيْنِ أَوْ أدْنى﴾ [النجم: 8-9]. والإمام عليّ (عليه السلام)، وهُوَ نفس رسول الله، قد بلغ مقام حق اليقين، وهو القائل: (لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً 4)، ومن بعده الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام)، فهما يشربان من ذات المعين , الأمر الذي يقودنا للقول بأنَّ الحسين (عليه السلام) بَلَغَ أعلى مراتب اليقين، وأنّه قد أدرك الحقيقة من خلال المقامات والمراتب التي وصل إليها في معرفة الحق، حيث سلك سلام الله عليه طريق الصديقين؛ وهو القائل: (هذا ذُلِّي ظَاهِرٌ بين يَدَيْكَ وهذا حَالِي لا يَخْفَى عَلَيْكَ منكَ أطلبُ الوُصُول إليكَ وبِكَ أسْتَدِلِّ عليكَ فاهْدِنِي بِنُورِكَ إليكَ 6)، لقد سلك الطريق إلى المقصود، والذي هو عين المقصود، واستدل على الحق بالحقّ، فقد طوى الإمام في سيره وطلبه الحقيقة مراتب ومقامات معرفة ذات الواجب حينما استغنى عن البراهين الفلسفية واستعان ببراهين الصديقين ومتخلّقاً ومتّصفاً بأسماء الله وصفاته اللامتناهية، فهو الإنسان الكامل الذي أصبح قلبه الشريف نقطة تجلّي للجمال والكمال الإلهي، فحلّقَ وَتَعَلَّقَ بالأصل اللامتناهي، فعرفه حقّ معرفته، وبلغ بذلك مقام التوحيد، وهي الحقيقة الكاملة.

يقول الإمام سلام الله عليه: (أنت الذي أشرقْتَ الأنوار في قلوب أوليائك، حتّى عرفوك ووحَّدوك 7)، فكانت الحقيقة ملازمة للحسين (عليه السلام)، مرتبطة بوعيه، تسير معه كظلّه. وهذا ما يعطينا أبلغ درس في حاجتنا للوعي المعرفي من أجل خلق فضاء واقعي فرداني جميل حتى نستطيع أنْ نُدرك الحقيقة، فمن دون وعي لا وجود للحقيقة كمفهوم يدخل بيت الضمير والعقل والنفس، ومن هنا جاء التأكيد على أهمية الوعي كمقدمة للوصول نحو الهدف المنشود ألا وهي الحقيقة، فالحسين (عليه السلام)، وهو الوعي المعرفي التّام، كانَ والحقيقة توأمان، عاشت معه وسكنت روحه، فمن تعلّق بالحسين (عليه السلام) سينهل من فيوضاته، وسيُدرك الحقيقة بوساطته، لا محال. 

فهل أدركنا معنى لا يوم كيومك يا أبا عبد الله؟ وأي مصيبة حلّت علينا في كربلاء؟

المراجع
1.         إقبال الأعمال - السيد إبن طاووس - ص339 - 350.

2.         بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 87، ص199، باب 12، ح6.

3.         علل الشرائع - الشيخ الصدوق - ج1،ص9، ح1. وكنـز الفوائد - الكراجكي الطرابلسي - ج1، ص328. وبحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج24، ص254. موسوعة كلمات الإمام الحسين ع - معهد تحقيقات باقر العلوم (عليه السلام)، ص540.

4.         كشف الغمة - بن أبي الفتح الإربلي - ج1، ص170 في وصف زهده (عليه السلام) في الدنيا.

5.          المعجم الجامع لكلمات الإمام الحسين (عليه السلام) - ص594.

6.         من دعاء عرفة للإمام الحسين (عليه السلام).

7.         من دعاء عرفة للإمام الحسين (عليه السلام).


كافة التعليقات (عدد : 1)


• (1) - كتب : علاء ، في 2024/07/13 .

احسنتم دكتور مقال في غاية الروعة
والعمق الفلسفي
جزاك الله خير الجزاء





  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=194882
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2024 / 07 / 13
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 12