بقلم ؛ الدكتور طه حسين (1) ، المفكر والأديب المصري المعروف
أعده وعلّق عليه وقدّم له الملاحظات ؛ مير عقراوي / كاتب بالشؤون الاسلامية والكوردستانية
[ أما القرآن الكريم فهو المعجزة الكبرى (2) التي آتاها الله رسوله الكريم ، آية على صدقه فيما يبلغ عن ربه . والقول في إعجاز القرآن يكثر ويطول وتختلف فنونه أيضا . فالقرآن كلام لم تسمع العرب مثله قبل أن يتلوه النبي . فهو في صورته الظاهرة ليس شعرا ، لأنه لم يجر في الأوزان والقوافي والخيال على ماجرى عليه الشعر . ثم هو لم يشارك الشعر الذي ألِفَهُ العرب في قليل أو كثير من موضوعاته ومعانيه .
فهو لايصف الأطلال والربوع ولايصف الحنين الى الأحبة ، ولايصف الإبل في أسفارها الطوال والقصار ، ولايغرق فيما كان الشعراء يغرقون فيه من تشبيهات لِلإبل والصحراء والرياض والأشجار والحيوان والصيد وأدواته ، لايعرض لشيء من هذا كله . وليس فيه غزل ولافخر ولامدح ولاهجاء ولارثاء ، وهو لايصف الحرب ومايكون فيها من الكر والفر ، وهو لايبالغ ولايغلو ولايعدو الحق . لايعرض من هذا كله لشيء وإنما يتحدث الى الناس عن أشياء لم يتحدث اليهم بها أحد من قبله ، يتحدث عن التوحيد فيحمده ويدعو اليه ، ويتحدث عن الشرك فيذمه وينهى عنه ، ويتحدث عن الله فيعظمه ، ويصف قدرته التي لاحد لها وعلمه الذي لاغاية له وإرادته التي لاتُرد وخلقه للسماوات والأرض ومافيهن من يسير الأشياء وخطيرها ، ومن صغير الأشياء وكبيرها . ويدعو الناس الى عبادة الله والإئتمار بما يأمر به والإنتهاء عما ينهي عنه والتنزه عما لايليق بكرام الناس .
ثم يصف ما أعد الله من النعيم المقيم للذين يؤمنون به وحده ويخلصون له دينهم ويصف ماآدّخر من العذاب الأليم الخالد للذين يشركون معه إلها آخر ويجعلون له أندادا ويكفرون بآياته ويجحدون نعمه عليهم . وهو يبشر المؤمنين بما أعدّ لهم من نعيم وينذر الكافرين ماآدّخر لهم من جحيم . وهو يصف قيام الساعة ومايكون فيه من هول يذهل المرضعة عما ترضع ويضطر ذات الحمل الى أن تضع حملها ويجعل الناس كأنهم سكارى وما هم بسكارى ، وهو يعظ الناس ليطهِّر أنفسهم ويزكّيها ويتلو عليهم من أنباء الغيب مايثبت به قلوب المؤمنين ويخلع به قلوب الكافرين . فيقص عليهم أنباء الرسل الذين أرسلوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم وجاؤوا قومهم بالآيات البينات . فأعرض عنهم أكثر قومهم ولم يؤمن منهم إلاّ القليل ، فعذّب الين أعرضوا وأخزاهم في الدنيا والآخرة ونجّى الذين آمنوا وأرضاهم في الدنيا والآخرة أيضا .
كل هذا وأكثر جدا من هذا يتحدث به القرآن الى الناس على لسان رجل من قريش لم يتعلم قط كتابة ولاقراءة ولاحسابا (3) ، ولم يجلس قط الى أحبار اليهود ولارهبان النصارى ولاأصحاب الفلسفة (4) ، وإنما هو رجل عربي أمّيّ كأكثر العرب لايعلم من أمر الدنيا إلاّ مثل ماكان أوساط العرب يعلمون . وهو مع ذلك يجادل اليهود في التوراة ويجادل النصارى في الإنجيل ويصفهم بأنهم يكذبون على موسى ويقولون على المسيح غير الحق ويُحَرِّفون ماعندهم من التوراة والانجيل .
كل ذلك وهو لايقرأ التوراة ولا الانجيل ، وإنما ينبئه الله نبأ الحق بما في كليهما وهو لم يأت لنسخ التوراة ولا لنسخ الانجيل وإنما جاء مصدقا لما بين يديه منهما ومضيفا اليهما ماأمره الله أن يضيف من العلم والدين (5) . وهو يُحَاجّ المشركين في آلهتم تلك التي كانوا يعبدونها ويجعلونها لله أندادا ويَتَّخِذونها عنده شُفعاء والتي لاتجيبهم إنْ دَعَوْهَا ولاتسمح لهم إن تحدثوا اليها ، ولاتنفعهم ولاتضرهم ولاتغني عنهم من الله شيئا إن أراد بهم سوءا ، ولاتُمسك عنهم رحمة الله إن أراد بهم رحمة ، وإنما هي أشياء صنعوها بأيديهم ، أو صُنعت لهم من قبل بأيدي الرجال ثم خَلَعُلوا عليها ماليس لها من القوة والبأس والسلطان .
ثم هو يُشَرِّعُ لهم من الدين والشرائع ماينفعهم في الدنيا ويعصمهم من عذاب الآخرة إنِ آستمسكوا به وأنفذوه على وجهه . فَيُشَرِّعُ لهم في أمر الزواج والطلاق والميراث والوصِيّة والبيع والشراء وغير ذلك مما تقوم عليه حياتهم الاجتماعية وحياتهم الفردية أيضا . ثم هو يفرض عليهم من أنواع العبادة مايُطّهِّرُ نفوسهم وَيُزَكِّي قلوبهم ويَيَحْضَرُ في ضمائرهم حب الله والإخلاص له وخوف الله والإشْفاق منه . ويبين لهم ألاّ سبيل الى أن يستخفوا من الله بكبيرة أو صغيرة فهو يسمع كل شيء ويرى كل شيء ويعلم كل شيء . وهو معهم حين يجتمعون وحين يخلو كل واحد منهم الى نفسه ، وهو يعلم مايثور في قلب الانسان من عاطفة وما يضطرب فيه من هوىً ومايخطر في ضميره من خير أو شر . بل هو يعلم أكثر من ذلك ؛
يعلم كل ماكان وكل ماهو كائن وكل ماسيكون . وهو يحصي عليهم أعمالهم وكل ماتحدثهم به أنفسهم من الخير والشر ، ومن الفجور والبِرِّ ، ومن الطاعة والمعصية . وهو يسجل كل هذا في كتاب مُدّخر عنده . فيعرض على كل إنسان كتابه يوم الحساب ويجزيه عما سُجِّلَ في هذا الكتاب من أعماله الظاهرة والباطنة إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا .
ثم يُنْبِيءُ الناس في الدنيا بما تقول ألسنتهم وماتعمل جوارحهم وماتَضْمِرُ نفوسهم . تجد كل هذا كله في القرآن الذي يتلوه هذا الرجل الأمي والذي أخذ في تلاوته فُجأةً ذات يوم بعد أن بلغ الأربعين وأنفق ثلثي عمره في الدنيا يحيا كما يحيا غيره من قريش . فلا غرابة في أنْ يبهر قريشا وسائر العرب هذا العلم الذي جاءه فجأة . ولاغرابة في أن يعجزهم فَهْمَ هذا كله ، فهم في حيرة من أمر هذا الرجل وما يتلو عليهم من الآيات (6) .
يقولون إنه شاعر ، ثم يستبين لهم أنه لاينشدهم شعرا . ويقولون إنه كاهن ، ثم يتبين لهم أنه لايّسْجَعُ لهم سَجَعَ الكُهّانِ . ويقولون إنه ساحر ، ثم يستبين لهم أنه ليس من السحر في شيء ، وإنما هو رجل مثلهم لايملك لنفسه نفعا ولاضرا يسعى في الأرض كما يسعون ويكسب قوته كما يكسبون أقواتهم ، ويصارحهم بأنه لايعلم من أمر الغيب إلاّ ما يُعَلِّمُهُ الله حين يوحي اليه القرآن . فيريحون أنفسهم كما يريح الباحث المجد نفسه بعد الكد والعناء الذين لايغنيان عنه شيئا فيقولون ؛ إنه مجنون . ولكن هذا لايريحهم فهم يقولون له ويسمعون منه ويرقبونه مصبحين وممسين فلا ينكرون منه شيئا إلاّ هذا الكلام الذي يتلوه عليهم ، فتخشع لهم قلوب فريق منهم ويعرض عنه أكثرهم . فلايجدون لهم مخرجا إلاّ أن يجاهروه بالعداء وينصبوا له حربا منكرة ، ولكن القرآن ينزل عليه وهو مضطر الى أن يتلوه عليهم (7) .
قد أعياهم أمره كل الإعياء ؛ أرادوا أن يأخوه باللين فلم يفلحوا ، وأرادوا أن يأخذوه بالشدة فلم يفلحوا . وأكثر من هذا أنه يتلو عليهم القرآن مايتحداهم ويسألهم أن يأتوا بمثله . وهو يحاولون فلا يستطيعون ولكنهم مصرون على العناد ، فيطالبونه بالآيات العظام ، يسألونه أن يُغني نفسه من فقر فيُنْشِيءَلنفسه جنة من نخيل وعنب ويُفَجِّرَ فيها الأنهار والينابيع ، ويسألونه أن يأتيهم بالله والملائكة ، ويسألونه أن يُسْقِطَ السماء عليهم كِسَفَاً ، ويسألونه أن يرقى في السماء ويأتيهم منها بكتاب يقرؤونه ، ويسألونه أن يبتكر لنفسه بيتا من زخرف ، أو أن يُنَزِّلَ عليهم من السماء كنزا ، فلا يسمعون منه إلاّ ردا واحدا ، وهو أنه لايملك أن يأتيهم من هذه الآيات بشيء ، لأنه بشر مثلهم لايمتاز منهم إلاّ بأن الله إختصّه برسالته وأرسله الى الناس بشيرا ونذيرا (8) ] إنتهى الجزء الأول من مقال الدكتور طه حسين . المصدر ؛ كتاب [ إسلاميات ] لمؤلفه الدكتور طه حسين ، دار العلم للملايين ؛ مؤسسة ثقافية للتأليف والترجمة والنشر ، بيروت / لبنان ، الطبعة الرابعة ، آب ( اغسطس) 1984 ، ص 81 - 84
التعليقات والملاحظات ؛
1-/ طه حسين ( 1889 – 1973 ) : كاتب وباحث وناقد عربي مصري معروف ، لُقّبَ بعميد الأدب العربي ، فقد بصره وهو طفل . بدء تعليمه في الكتاتيب ، ثم درس في جامعة الأزهر ، سافر الى فرنسا في بعثة علمية فدرس في جامعة السوربون وحاز منها على درجة الدكتوراه في الأدب . وله إنتاج كبير في التأليف والكتابة ، في مختلف المجالات الأدبية والدينية والقصصية والنقدية . أما في مجال الإسلاميات فله مجلّد ضخم بعنوان [ إسلاميات ] حيث يشمل الكتب التالية ؛
1-/ مرآة الاسلام . 2-/ على هامش السيرة . 3-/ الوعد الحق . 4-/ عثمان . 5-/ علي وبنوه . للتوسّع أكثر في الجوانب الفكرية والايمانية للدكتور طه حسين ينظر كتاب [ الخطاب الفكري والمنهج النقدي في أدب طه حسين ] للدكتور خالد يونس خالد ، وقد طبع هذا الكتاب عام 2005 في السويد . يعتبر هذا الكتاب من أهم الكتاب التي تناولت الدكتور طه حسين على الصعيد الفكري والايماني .
إن هذه المقالة وغيرها من آثار وكتب الدكتور طه حسين أكبر شاهد ودليل على ما قاله الكاتب هشيار بنافي من إفتراءات عليه ، وعلى الفيديو المجهول عنه .
2-/ لعمرو الحق لقد صدق الدكتور طه حسين في آعتقاده وقوله بأن القرآ الكريم هوو المعجزة الكبرى . وغيره كثيرون قد لايحصى عددهم من الفطاحل والقادة والقامات الشامخة للعلم والفكر والسياسة والمعرفة والفلسفة ، من شتى الأديان والمعتقدات والفلسفات والأعراق قد أقروا بإعجازية القرآن وعظمته وعُلُوِّ مستواه ، منهم على سبيل المثال لا الحصر ؛ لورا فيشيا فاغليري وفيلب حتي وموريس بوكاي وغوته ومايكل هارت وبورنادشو وغيرهم كثيرون .
تقول المستشرقة الإيطالية المعروفة الدكتورة ( لورا فيشيا فاغليري / 1893 – 1989 ) عن القرآن الكريم ؛ [ إن معجزة الاسلام العظمى هي القرآن الذي تنقل الينا الرواية الراسخة غير المنقطعة ، من خلاله ، أنباء تتّصف بيقين مطلق . إنه كتاب لاسبيل الى محاكاته . إن كُلاًّ من تعبيراته شامل جامع ، ومع ذلك فهو ذو حجم مناسب ، ليس بالطويل أكثر مما ينبغي وليس بالقصير أكثر مما ينبغي . أما أسلوبه فأصيل فريد . وليس ثمة أيما نمط لهذا الأسلوب في الأدب العربي الذي تحدّر الينا من العصور التي سبقته . والأثر الذي يحدثه في النفس البشرية إنما يتم من غير أيما عَوْن عَرَضي ، أو إضافي من خلال سموّه السليقي ! .
إن آياته كلها على مستوىً واحد من البلاغة ، حتى عندما تعالج موضوعات لابد أن تُؤثر في نَفَسها وجَرسها ، كموضوع الوصايا والنواهي وما اليها . إنه يكرر قصص الأنبياء ، وأوصاف بدء العالم ونهايته ، وصفات الله وتفسيرها ، ولكنه يكررها على نحو مثير الى درجة لاتُضعف من أثرها . وهو ينتقل من موضوع الى موضوع من غير أن يفقد قوته ] ينظر كتاب ( دفاع عن الاسلام ) لمؤلفته لوريا فيشيا فاغليري ، دار العلم للملايين ، الطبعة الخامسة ، كانون الثاني – يناير – 1981 ، ترجمة منير البعلبكي ، ص 56 – 57 .
وتضيف فاغليري ؛ [ إننا نقع هنا على العمق والذوبة معا – وهما صفتان لاتجتمعان عادة – حيث تجد كل صورة بلاغية تطبيقا كاملا . فكيف يمكن أن يكون هذا الكتاب المعجز من عمل محمد ، وهو النبي العربي الأمي الذي لم يُنّظِّمْ طِوال حياته غير بيتين أو ثلاثة أبيات ، لاينم أي منها عن أدنى موهبة شعرية !؟ ] ينظر نفس الكتاب السابق والمؤلفة ودار النشر والطبعة والسنة والمترجم ، ص 57
3-/ لم يكن للعرب عهد ما قبل الاسلام بالعلوم والمعارف والمدارس والفلسفات كما كان ذلك معهودا ومشهودا في بلاد مصر والهند والصين وكوردستان وفارس والعراق . في هكذا بيئة أمية بعث رسول الله محمد عليه الصلاة والسىلام الذي هو كان أيضا أميا ، حيث انه لم يتعلم قط القراءة والكتابة ، لأن الجزيرة العربية كانت قاحلة بما ذكرناه آنفا . على هذا الأساس لما واجه الرسول الأمين العرب بالقرآن بهروا وآنبهروا به ولم يحروا جوابا عليه ، بل أخذتهم الدهشة والإستغراب والتأثر به سواء كان من المؤمنين به أو المخالفين على حد سواء . مضافا انهم كلهم كانوا يعترفون بسلامة رسول الله محمد ( ص ) وصحته الكاملة على المستوى العقلي والنفسي والأخلاقي والانساني والاجتماعي ! .
4-/ الثابت ان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لم يتردد إطلاقا على الأحبار والرهبان ، أو الفلاسفة والحكماء ليتعلم منهم ماعندهم من المعارف والثقافات ، ثم إن العلوم والمعلومات والمعارف التي يتضمنها القرآن تختلف جذريا عمّا هي موجودة في سائر الأديان والفلسفات ومدارسها ومذاهبها المتنوعة والمختلفة .
5-/ الدكتور طه حسين يقصد من كلامه التوراة التي نزلت أنزلت على موسى عليه الصلاة والسلام والانجيل الذي نزل على عيسى عليه الصلاة والسلام .
6-/ نعم لقد أصاب العرب الحيرة من أمر رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام ، إذ كيف واجههم الرسول فجأة بهذا الكم الهائل المعجز من الآيات الباهرات والمعارف والعلوم والمعلومات على شتى المستويات وهو لم يتعلم من أحد قط ، أو انه لم يدرس في مدرسة أبدا !!؟
7-/ كان العرب وقتها يعرفون رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام كل المعرفة ، وعن قرب فلم يعرفوا أو يجربوا عنه شيئا من سلبيات الأفعال والسلوكيات بتاتا ، حيث كانت البيئة العربية في الجزيرة تعج بها يومذاك . لهذا إستصعب أمره معهم كثيرا ، وبخاصة رسالته الكريمة التي أبهرتهم كل الإنبهار .
8-/ عليه لم يبق أمامهم إلاّ العداء والعدوان ومناشدة رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام بطلبات عجيبة وغريبة ، حيث سجل القرآن الكريم في العديد من سوره جزء منها .
|