حينما تعصف بنا رياح التشرذم ويتمزق الوطن , نتذكر بحنين جارف زمن الوطنية الحقة وقادته البسطاء العظام , حينما تعم المناطقية والطائفية واللا وطنية نتذكر زمن الوطنية الجميل , حينما يبرر البعض سرقاتهم ويتعاملون مع الوطن بلغة التهديف والصيد ويصبح الوطن سمكة معلقة بصنارتهم , أو يطفو ميتا بفعل سموم صيدهم وتعدياتهم على حرماته , نتذكر ذلك الزمن الذي طغت فيه الروح الوطنية وسمت قيمها على ما عداها .
اكتب اليوم عن ثورة 14 تموز .ثورة شرعت بحز رقاب الفقر والإقطاع والتعصب القومي والطائفي والعشائري والطامعون بالعراق, فتآمر عليها أذناب الإقطاع وأشباه الرجال والمنحرفون والشفينيون ومن سرقوا العراق لاحقا واقتطعوا أجزاء كبيرة من أراضيه , لقد تلاقت مصالح كل هؤلاء الرعاع , فتآمروا ونجحوا بحز رقبة الثورة وقائدها , وأصبح العراقيون وأمسوا يرددون (مالنه بالطيب نصيب).
ثورة أنجزت للعراق وفقرائه في أربع سنوات ما لم تنجزه كل الحكومات المتعاقبة على حكم العراق منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة قبل أكثر من 90 سنة للان .
حينما تقرأ ضمائرنا يوميا الآلاف الإعلانات التي تدعونا للمشاركة بمراسم تأبين العفة ونظافة اليد والوطنية , يعاد إلى أذهان كبار السن والشباب الذين تشبعوا بالوطنية , تعاد صور ثورة تموز وزعيمها العفيف الشريف نظيف اليد عبد الكريم قاسم , حين يعود شريط تلك الثورة العذراء التي اغتالتها عاهر الثورات التي تناوب على الصعود فوقها عراقيون وعرب وأجانب ,ومع كل ذلك التاريخ الدموي المخزي مازال البقايا من بغاياها حقبة البعث يطلقون عليها اسم عروس الثورات في شباط من العام 1963 .
توثق صور كثيرة تم تداولها بكثرة على مواقع الانترنيت: (سفرطاس عبد الكريم قاسم) , الذي يؤرخ لتاريخ من البساطة والزهد , لكن تشرفي باستضافة العم صلاح الدين حلمي رئيس المذيعين ورئيس قسم الترجمة في قسم الإذاعة الكردية إبان ثورة تموز ,أضاف العم صلاح للسفرطاس شيئا جديدا ربما لا يعرفه الكثير من العراقيين. كان الزعيم يأمر المشرفين على الضيافة بجلب المزيد من (استكانات الدارسين) كلما انتهى ضيوفه من شرب وجبة منه في شتاء , كان برده قارصا , عرض الزعيم على ضيوفه تناول الكباب من المطعم المطل على ساحة الميدان قائلا: (راح ادزلكم على وجبة عشاء على حسابي, كباب , آكل منه نص نفر يومية لو بالغداء لو بالعشاء )!.
رحم الله الزهد والنزاهة والبساطة ونظافة اليد , وزاد الله ألأمراض التي تسببها الشراهة في الشراب والطعام بين البعض من ساستنا ومسؤولينا , الذين لا هم لهم غير مصالحهم . لقد أسهب العم صلاح في وصف الليلة التي قضاها في ضيافة الزعيم الخالد قاسم ومرافقيه في مكتبه بوزارة الدفاع . كان وصف العم صلاح للزعيم رائعا حين قال :(استمر الزعيم لساعات طوال واقفا يشرح لضيوفه ما يحيط بالثورة من أخطار , حدد أولها بالخطر الخارجي الذي يقوده جمال عبد الناصر) .لقد استمر لقاء العم صلاح بالزعيم لغاية الربعة فجرا. استأذن الزعيم ضيوفه ليذهب لزيارته التفقدية الليلة على الأحياء الفقيرة والمخابز والأفران والمستشفيات والصيدليات الخافرة .كان منهاج زيارته في تلك الليلة محددا لزيارة مدينة الثورة .
لقد كانت ذاكرة العم صلاح ندية جدا , وكان وصفه لساعات اللقاء ممتعا. كانت مناسبة جميلة ان نستذكر ثورة تموز وذكراها على الأبواب .مرحى وألف مرحى لذكرى عذراء الثورات , وسلاما وألف سلام لقادتها العظام , والخزي والعار لمن وقف ضد الثورة أو تآمر عليها , لان جميع من اشتركوا في اغتيال ثورة 14 تموز يشتركون ألان ويخططون لاغتيال التجربة الديمقراطية في العراق.
فهل حصل ويحصل هذا صدفة ؟.
(النفوس الكبيرة تشبه القمم العالية..الريح تضربها والغيوم تلفها ) |