عن الهيبة والوقار يقول الشيخ الكعبي في كتابه الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ: تجلّت في شخصية الإمام الباقر عليه السلام سمات أولياء اللّه وأحبائه الذين أضفى عليهم العزة والوقار والهيبة في الدنيا، والظفر في الآخرة، قال عليه السلام: (إن اللّه عزّوجلّ أعطى المؤمن ثلاث خصال: العزة في الدنيا، والفلح في الآخرة، والمهابة في صدور الظالمين، ثم قرأ: "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُوءْمِنِينَ" (المنافقون 8). وقد ابتعد الإمام عليه السلام عن كل ما ينافي الوقار وسمو الشخصية ومعالي الأخلاق، فروي أنه كان إذا ضحك قال: (اللهم لا تمقتني). من هنا كان كل من التقى الإمام عليه السلام، قد بدت له مظاهر العظمة والإجلال وملامح الهيبة والوقار، عظمة المكارم التي يحملها، وهيبة الملكات القدسية التي اجتمعت في شخصه عليه السلام، ومنهم الصحابي الجليل جابر بن عبد اللّه الأنصاري. وقابله فقيه أهل البصرة قتادة بن دعامة البصري، فاضطرب قلبه من هيبته، فقال: (أصلحك اللّه، لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدام واحدٍ منهم ما اضطرب قدّامك). وقال عبد اللّه بن عطاء المكي: (ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر).
جاء في کتاب الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ للشيخ علي موسى الكعبي: قال عليه السلام لجابر بن يزيد الجعفي: (يا جابر، أيكتفي من انتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت؟ فو اللّه ما شيعتنا إلاّ من اتقى اللّه وأطاعه، وما كانوا يعرفون ـ يا جابر ـ إلاّ بالتواضع، والتخشع، وكثرة ذكر اللّه، والصوم، والصلاة، والتعهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن الناس إلاّ من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء. فقال جابر: يا بن رسول اللّه، لست أعرف أحدا بهذه الصفة. فقال: يا جابر، لا تذهبنّ بك المذاهب، أحسب الرجل أن يقول أحبّ عليا وأتولاه فلو قال: اني أحبّ رسول اللّه ؛ ورسول اللّه خيرٌ من عليّ، ثم لا يعمل بعمله ولا يتبع سنته، ما نفعه حبّه إيّاه شيئا، فاتقّوا اللّه واعملوا لما عند اللّه، ليس بين اللّه وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى اللّه وأكرمهم عليه، أتقاهم له وأعملهم بطاعته، واللّه ما يتقرّب إلى اللّه جلّ ثناؤه إلاّ بالطاعة، ما معنا براءة من النار، ولا على اللّه لأحد من حجّة، من كان للّه مطيعا فهو لنا وليّ، ومن كان للّه عاصيا فهو لنا عدو، ولا تنال ولايتنا إلاّ بالورع والعمل). ومن وصيته إلى جابر بن يزيد الجعفي: (واعلم بأنك لا تكون لنا ولياً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا: إنك رجل سوء لم يحزنك ذلك، ولو قالوا: إنك رجل صالح لم يسرك ذلك، ولكن اعرض نفسك على كتاب اللّه، فان كنت سالكاً سبيله، زاهداً في تزهيده، راغباً في ترغيبه، خائفاً من تخويفه فاثبت وأبشر، فإنه لا يضرك ما قيل فيك. وإن كنت مبايناً للقرآن، فماذا الذي يغرك من نفسك؟ ان المؤمن معنّي بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها، فمرّة يقيم أودها ويخالف هواها في محبة اللّه، ومرة تصرعه نفسه فيتبع هواها، فينعشه اللّه فينتعش، ويقيل اللّه عثرته، فيتذكر ويفزع إلى التوبة والمخافة، فيزداد بصيرة ومعرفة لما زيد فيه من الخوف، وذلك بأن اللّه يقول: "إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ" (الاعراف 201)). حرص عليه السلام على تأصيل الخصال الإسلامية في سلوكهم، ونبذ خصال السوء، ففي قول اللّه عزّوجلّ: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً" (البقرة 83) قال عليه السلام: (قولوا لهم أحسن ما تحبون أن يقال لكم، ثم قال: إن اللّه عزوجل يبغض اللعان السباب، الطعان الفحاش المتفحش، السائل الملحف، ويحب الحيي الحليم، العفيف المتعفف).
وعن الحثّ على طلب العلم وتعليمه يقول الشيخ علي موسى الكعبي: وفي المجال النظري حثّ الإمام الباقر عليه السلام أتباعه على طلب العلم، باعتباره الدعامة الأولى والمقدمة الضرورية التي يرتكز عليها صرح المدرسة العلمية، وذلك من خلال الارشادات التالية: أولاً: تحدث عليه السلام عن تمجيد العلم، وبين ثمراته وفوائده، وأثنى على طلابه. عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: (سارعوا في طلب العلم، فوالذي نفسي بيده لحديث واحد في حلالٍ وحرام، تأخذه عن صادق، خير من الدنيا وما حملت من ذهب وفضّة، وذلك أنّ اللّه يقول: (مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا" (الحشر 7)). وقال عليه السلام: (ما من عبد يغدو في طلب العلم ويروح إلاّ خاض الرحمة، وهتفت به الملائكة: مرحباً بزائر اللّه، وسلك من الجنة مثل ذلك المسلك). ومن كلامه عليه السلام في هذا السياق، قوله لبعض أصحابه: (تعلموا العلم، فإن تعلّمه حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه صدقة، وبذله لأهله قربة، والعلم ثمار الجنة، وأنس في الوحشة، وصاحب في الغربة، ورفيق في الخلوة، ودليل على السراء، وعون على الضراء، وزين عند الأخلاء، وسلاح على الأعداء، يرفع اللّه به قوماً فيجعلهم في الخير سادة، وللناس أئمة، يقتدى بفعالهم، وتقتصّ آثارهم، ويصلى عليهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البرّ وأنعامه).
وعن اعتماد الكتاب والسنة يقول الشيخ الكعبي في كتابه: الكتاب والسنة الأساسان المتينان لأي مدرسة علمية تتصدى لنشر علوم الإسلام، والابتعاد عنهما يعني البناء على قاعدة هشّة، لا تلبث أن تنزع عنها رداء الإسلام وهويته لتلحق بمدارس الهوى والضلال والانحراف. من هنا يعتقد أئمة أهل البيت: وشيعتهم من بعدهم اعتقاداً راسخاً بأن القرآن الكريم والسنة النبوية قولاً وفعلاً وتقريراً، هما أصل التشريع ومصدره الأم بلا منازع، ومن ذلك ندرك سرّ التلازم والتوافق بين القرآن الكريم والعترة المطهرة القائم منذ صدور حديث الثقلين، والباقي ما دام هناك مسلم على وجه الأرض، وعلى هذه الخطى جاء عن الإمام الباقر عليه السلام جملة توصيات. دعا الإمام الباقر عليه السلام ومن قبله آباؤه: إلى مركزية الكتاب الكريم، وكونه حاكماً على جميع ما نسب إلى السنة في جميع الأحكام الشرعية والعقائد التي جاء بها أهل البيت: عن جدهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم. قال الإمام الباقر عليه السلام: (انظروا أمرنا وما جاءكم عنا، فان وجدتموه موافقاً القرآن فهو من قولنا، وما لم يكن موافقاً للقرآن، فقفوا عنده وردوه الينا، حتى نشرحه لكم كما شرح لنا). وقال عليه السلام: (إن على كل حق نوراً، وما خالف كتاب اللّه فدعوه). وعلى ضوء ذلك، كان عليه السلام إذا سئل عن حديث يحدّث به أشار إلى دليله من كتاب اللّه، حتى يبدو حديثه وكأنّه انتزاعات من القرآن المجيد. عن أبي الجارود، قال: قال أبو جعفر عليه السلام: ( إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب اللّه، ثم قال في بعض حديثه: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال. فقيل له: يا بن رسول اللّه، أين هذا من كتاب اللّه عزوجل؟ قال: قوله: "لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ" (النساء 114)، وقال: "وَلاَ تُوءْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً" (النساء 5)، وقال: "لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُوءْكُمْ" (المائدة 101)). فالقرآن نور يضيء لنا الطريق في ثقافتنا وروحيتنا وحركتنا في الحياة، وهو الأساس الأول الحري بأن نتدبره ونستلهًمه، ونجعله كتاب الحياة الذي ينفتح على كل ما يحقق للإنسان الخير والسعادة، ولا نجمده من خلال تخلفنا وجهلنا.