رغم مرور عشرين عاماً على سقوط النظام الديكتاتوري الوحشي فإن دولتنا لا تزال قلقة ونعني بالقلق هنا الوضع المقابل للاستقرار ، وهو يشبه من الناحية الفيزيائية وضع الهرم مقلوباً على رأسه ، لاتدري في أي لحظة يميل يميناً أو شمالاً . وعندما نريد أن نقيّم أي دولة فإن المعيار الأول يكون باستقرارها ، وذلك يعني أنها تفرغت للبناء والإعمار وخدمة مواطنيها ، وحسمت قضايا التأسيس . وقبل الخوض في عوامل قلق الدولة مابعد 2003 لابد من الإشارة إلى قضيتين :
الأولى : إن هذه العوامل لا يتحملها السياسيون وحدهم فهناك ظروف موضوعية وذاتية كانت ولازالت سبباً في هذه العوامل .
الثانية : عندما نقول الدولة فإننا نعني ما نقول فهي أعم وأشمل من الحكومة فالأخيرة جزء من الأولى .
تُرى ما هي أهم عوامل قلق الدولة ؟
أولاً: الموقع من النظام العالمي ويعني عدم اتفاق شركاء الحكم على ميول النظام السياسي في العراق ، فهل هو حليف للقطب الدولي الأكبر في العالم (أمريكا) ؟ أم حيادي اتجاهها لا يعاديها ولا يتحالف معها وانما تقوم علاقته بها على قدر المصلحة ؟ أم هو عدو لها كدولة استكبارية واستعمارية ؟ فالمؤسسون لدولة ما بعد 2003 والمشاركون في الحكم فيها خليط غير متجانس وقد يصل إلى حد التضاد في هذه القضية بين من يراها حليفاً ومحرراً وآخر يراها عدواً وغازياً ، وللأسف حتى الآن لم تحسم هذه القضية .
ثانياً: قد يقول قائل أن الدول الديمقراطية تشهد مثل هذه الاختلافات في قضايا مصيرية ولكنها مستقرة ، لقد اختلف سياسيو بريطانيا اختلافاً حاداً حول الخروج من الاتحاد الأوربي (البريكست) أو البقاء به ، واختلف الأمريكيون أنفسهم حول غزو العراق عام 2003 ، أقول نعم ولكن الفارق أن الدول المستقرة وضعت آلية يحترمها الجميع في القضايا المختلف عليها وهي قضية التصويت في مجالسها النيابية والجميع يحترم ما تؤول اليه نتيجة التصويت ، وفي المنازعات تتدخل محاكم القضاء العليا لتفصل في النزاع ، نحن -وللأسف- اعتمدنا معيار التوافق في كثير من الأزمات لمدة ولكننا أيضاً غادرناه بعد وفاة الرئيس جلال الطالباني وبتنا لا نحترم هذا المعيار في أحيان ونعود اليه في أحيان أخرى ، أما التصويت فهناك احتجاج على أننا شعب متعدد الأعراق والقوميات والمذاهب ولا يمكن الاعتماد على رأي الأغلبية لأنها تعني ديكتاتورية المكون الأكبر للبلاد وما بين التوافق والأغلبية وأيهما اعدل وأمثل جدل لم تحسم نتائجه حتى الآن، أما المحكمة الاتحادية العليا -فللأسف- أيضاً بدأت بعض قراراتها لا تنفذ خلافاً لما نص عليه الدستور كون أحكامها باتة وقاطعة .
ثالثاً : قضية الدين والدولة عامل آخر ومهم من عوامل عدم الاستقرار ، فكتل كبيرة في الحكم ذات جذور ومنابع إسلامية سياسية كحزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى الإسلامي وتيار الحكمة ومنظمة بدر والحزب الإسلامي ، وغيرهم الكثير من الحركات الأخرى ، كلها كانت تتبنى في أدبياتها قبل سقوط النظام مفهوم الدولة الاسلامية والمجتمع الإسلامي الفاضل وتحكيم الشريعة والفصل في المنازعات وفق تشريعاتها ، وهي اليوم لم تعلن بشكل واضح تخليها عن تلك الأهداف والانتقال إلى دولة علمانية متكاملة الأركان ، ولا هي قادرة على تطبيق تلك الأدبيات وتعلن ذلك ، فبين من يريد دولة لا تحارب الدين ولكنها محايدة اتجاه كل الديانات ، دولة مواطنة حقاً على غرار الدول الأوربية لا تتدخل بالشأن الديني ولا للشأن الديني تدخل في قراراتها وخطواتها وآخرين يرون أن الدولة يجب أن تصطبغ بصبغة الإسلام وأن لا نسمح في المجال العام لأي تصرفات أو أعمال لا تتلاءم والطابع الديني الذي رسمته الشريعة . وقد يقول قائل أن الدستور هو الفيصل وهو الحرم المقدس الذي لا يجوز المس فيه ، أقول إن الدستور نفسه أربك هوية الدولة ففي مادته الثانية جمع بين قضيتين لا يمكن الجمع بينهما من جهة لا يجوز سن أي قانون يتعارض وثوابت أحكام الإسلام ، ومن جهة أخرى لا يجوز سن أي تشريع يتعارض ومبادئ الديمقراطية ، والديمقراطية كفلسفة تعني ان الشعب مصدر السلطات ، وذلك يعني أن مصدر التشريع هو الشعب ، بينما تعني ثوابت احكام الإسلام ان مصدر التشريع هو الله وليس الشعب وان السيادة لله ، وفي كلا الحالين تواجه الدولة التنازع بين الحريات الشخصية وقيود الثوابت الاسلامية واذا كان هذا الأمر لايبدو واضحاً في الوقت الحاضر فإنه سيظهر مستقبلاً بشكل أوضح .
رابعاً : السلاح مصدر من مصادر قلق الدولة ، اذ لم تحسم الدولة العراقية منذ 2003 وحتى الان موضوع السلاح ولم تستطع حصره بيدها كونها المخول الوحيد بامتلاك سلطة العنف والإكراه ، فلازال هناك الكثير من التعقيد في هذه القضية ، وكل يرى من وجهة نظره أن له الحق بامتلاك السلاح ، فالبشمرگة لها مبرراتها وفصائل المقاومة ترى في ذلك السلاح أعني سلاح البيشمركة وتواجد قوات الاحتلال مبرراً في امتلاكها السلاح أيضا ، وذلك ما يحتاج إلى حوار طويل للوصول إلى حلول شافية ومقنعة .
ورغم أن العوامل التي اشرنا اليها معقدة لكننا لازلنا نأمل أن منطق العقل والحكمة سيسود وسيتجاوز العراقيون مشاكل التأسيس ليتفرغوا للبناء والإعمار وخدمة المواطنين .
|