لم تكن قضية مقارنة مذهبية ضيّقة ، بل وقائع استندت على أدلة قرآنية تدعمها احاديث نبوية بأن ما يحصل في هذه الأمة هو عين ما حصل في الأمم الأخرى. وقد كان حديث النبي (ص) واضحا عندما أشار إلى عمليات اقتباس ونسخ لما حصل في تلك الأمم مع أنبيائها وكتبها السماوية. فإتّباع سنن من كان قبلنا أمرٌ حسمهُ القرآن والسنة النبوية الصحيحة، ولا زال المسلمون يتداولون تلك الأحاديث ويقرأون الآيات إلى اليوم.(1) والأمور التي أشار لها القرآن والسنة ليست بالأمور الهامشية او الأخطاء العفوية ، بل هي أمور تسببت في كوارث على مستوى المعتقدات، ولعل أخطرها هو وضع شرائع تتماشا وأطماع من وضعوها من الحكام والأباطرة ورجال الدين، لأن المجتمعات مقلدة لهم تابعة لسلطانهم ولا قدرة لها على إحداث التغيير لأنها لا تمتلك الوسائل لذلك، سوى الإرجاف لما يُقال لها. فما على رجل الدين أو الحاكم إلا أن يقول كلمة أو يُصدر أمرا حتى تتراكض الأمم إلى تقليد ذلك ونشره ولربما تضخيمه بما يتلائم ومخيلتهم المليئة بالأساطير التي توارثوها. ولمّا كان التدوين معدوما تقريبا وأغلب ما يتم تداوله شفاها فقد أختلط على السنة العامة مع ما وضعهُ الحاكم او رجل الدين الشيء الكثير. فإذا قال رجل الدين أو الحاكم شيئا أضافت العامة له أشياء وأشياء، على قول المثل : الناس على دين ملوكهم.
دأبت الكتب السماوية على ذكر أتباع الأنبياء كلٌ حسب درجة إيمانه أو أفعاله، فهي لا تتورع أن تصف اقرب المقربين من الأنبياء بالكفر والفسق والنفاق أو الارتداد والانقلاب على الأعقاب وتحذرّهم وتُحذّر منهم، وهم في خشية وحذر دائمين أن يفضحهم الله.(2)
الله لا يُحابي أحد وهو يتعامل مع بواطن عباده (القلوب)، وهذه الكتب السماوية حافلة بذلك. ولكن الغريب أن تنفرد التوراة إضافة لما في الكتب المقدسة الأخرى، بأوصاف تفضح فيها إخوان القردة والخنازير حتى أنها تصفهم بأوصاف لم ترد في الإنجيل والقرآن. ولعل اشهرها اتهام الكتاب المقدس لهم بأنهم يبتدعون الأديان والمذاهب الباطلة.
فأول توبيخ نزل عليهم من الله هو قوله لهم: (كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا؟ حقا إنهُ إلى الكذب حوّلها قلم الكتبةِ الكاذب).(3) في هذا النص اتهام خطير وواضح بتحريف اليهود للتوراة (الشريعة). يزعمون أن شريعة الرب معهم، فيقول لهم تعالى: إلى أكاذيب حولتم شريعتي. فلماذا يُلام القرآن عندما يصفهم بالكذب على الله تعالى (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يُفلحون).(4) ويبدو من خلال تتبع سير الآيات أن الكذب على الأنبياء كان ظاهرة عامة أصابت كل الأمم التي بعث الله فيهم أنبياء.(5)
ثم يستمر الله تعالى بوصفهم بأقذع الأوصاف فيقول: )ارتد هذا الشعب ارتدادا، تمسكوا بالمكر. أبو أن يرجعوا. بغير المستقيم يتكلمون، ليس أحد يتوب عن شرّه. لم يعرفوا قضاء الرب. رفضوا كلمة الرب، كل واحد مولع بالربح من النبي إلى الكاهن، كل واحد يعمل بالكذب، ولم يعرفوا الخجل).(6)
هذا التحامل العجيب من قبل الله تعالى عليهم لم يكن بدون سبب. فهم لم يكفروا بالشريعة أو يملئوها بالأكاذيب فقط، بل ارتدوا وانقلبوا على أعقابهم واخترعوا شريعة أخرى قرنوها بشريعة موسى وأطلقوا عليها شريعة الملك (شريعة الرب ، وشريعة الملك). ثم كتبوا نصا في التوراة يقول بأن كل من لا يعمل بالشريعتين يتعرض لعقوبات شتى حيث نقرأ ( كل من لا يعمل بشريعة إلهك وشريعة الملك، فليقض عليه عاجلا إما بالموت أو بالنفي أو بغرامة أو بالحبس).(7) وهذا نفسه حصل في الإسلام وعلى يد تلاميذ اليهود ، وكأن الجماعة نسخوا ذلك نصا من التوراة ومن دون تغيير، فوضعوا شرطا بعد انقلابهم المشؤوم على رسول الله صلوات الله عليه وآله في السقيفة، وضعوا شرطا لنيل الخلافة مفادهُ بأن من يوافق على العمل بـ (سنة رسول الله وسنة الشيخين أبو بكر وعمر). سوف يكون خليفة على المسلمين ويحصل على امتيازات هائلة فيكونوا قيادات في الجيش وولاة وقضاة في الأمصار. ومن يرفض سنة الشيخين سوف يتعرض للقتل والإبعاد وووو. وهذا ما حصل لأفراد وقبائل توقفت بعد وفاة رسول الله لترى إلى ماذا سوف تؤول الأمور. فحصل للكثير ممن رفض قبول هذا الشرط حوادث مؤسفة مثلما حصل لسعد بن عبادة عندما أمر عمر بقتله ، ثم قاموا بضرب ابن مسعود وكسروا أضلاعه وتوفي جراء ذلك ، ونفوا ابو ذر الغفاري إلى الصحراء، وقتلوا حليفهم سعد بن أبي وقاص وزعموا أن الجن قتلوه؟! وكان ابن عباس يصيح في شوارع المدينة: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر).( وفي رواية ان ابن عباس كان يقول لهم : (والله ما أراكم منتهين حتى يُعذبكم الله، أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثونا عن أبي بكر، وعمر).(9) ولم يكن القتل لمن يرفض شريعة أبي بكر وعمر محصورا على مستوى الأفراد بل تعداه إلى حرب شاملة على قبائل كاملة امتنعت عن دفع الزكاة لأبي بكر لأنها سمعت رسول الله (ص) في غدير خم وهو يوصيهم بالطاعة لعلي (ع) من بعده فجرى ما جرى على قبيلة مالك بن نويرة التي تعرضت للإبادة، ورموا بقية المسلمين بالارتداد فسلطوا عليهم قبائل اسلم وهم من إعراب المدينة الذين وصفهم القرآن بالنفاق. ثم استعانوا بخالد بن الوليد في قمع تمردهم، فأمعن فيهم قتلا بتهمة الارتداد. والأهم من ذلك إبعادهم للإمام علي عليه السلام من الخلافة لأنهُ لم يوافق على العمل بسنة الشيخين مع سنة رسول الله (ص). حيث قام عبد الرحمن بن عوف بعرض الخلافة على الثلاث الذين رشحهم عمر بن الخطاب على شرط أن يعملوا (بسنة رسول الله وسنة أبي بكر وعمر).(10)، وأمرهم عمر بأن يقتلوا من يرفض ذلك. وهذا القول هو نفس قول التوراة (كل من لا يعمل بشريعة إلهك وشريعة الملك، فليقض عليه عاجلا بالموت) فرفضها علي ابن أبي طالب عليه السلام معرّضا حياته للخطر على يد أتباع السقيفة. فأصبح في الإسلام شريعة السلطة، وشريعة الله. فشُطر الإسلام إلى حزبين أو فريقين، ولم تستقم أمور المسلمين منذ ذلك اليوم، فسارت سنة أبي بكر وعمر جنبا إلى جنب مع سنة رسول الله (ص).
لنبحث في شريعة الملك التي فرضها اليهود على الناس جنبا إلى جنب شريعة الله (التوراة). الملك المقصود هو آرتحشستا الأول ابن آحشويرش وهو ملك فارسي وثني وتزعم التوراة بأن الأنبياء عزرا ونحميا كانا ضمن رجال حاشيته. وهذا الملك قتل أبوه وأخوه وغدر بقائده أرتاباتوس من أجل الملك.(11)
ولكن سر خدمة أنبياء اليهود لهذا الملك الوثني وفرض شريعته بالقوة مع شريعة الله هو أن هذا الملك كما تذكر التوراة سمح لليهود بالعودة لأورشليم وبناء هيكلهم الذي هدمهُ نبوخذ نصر وكلف آرتحشستا نحميا النبي بذلك ، ثم أقامهُ واليا عليها .(12)
وهكذا تكررت نفس المأساة في الإسلام ، حيث قاموا بتكريم الشيخين بإضافة سنتهما إلى سنة النبي ومن أبى ذلك فقد كفر.
المصادر :
1- ففي تقليد الأمم السابقة ليس من الضروري أن تعبد هذه الأمة (عجّلا جسدا لهُ خوار). بل تعبد شخصا يُشار إليه بأنه عجل في استعارة لا تخفى على أحد، فإذا كان عليا عليه السلام هارون هذه الأمة فمن هو عجلها ومن هو سامريها الذي يتبعهُ الناس؟ الجواب في قول رسول الله (ص) : (لتركين سُنة أهل الكتاب قبلكم حذو النعل بالنعل، لا تُخطئون، ولا يُخطأ لكم. فقال رجلٌ من القوم: يا رسول الله، حتى يعبدوا عجل بني إسرائيل؟ فقال : نعم ، وعجلُ أمتي فُلان). صحيح أن ناقل الحديث أبهم إسم سامري وعجل هذه الأمة، ولكن الأمر واضح للكثير. مسند الشاميين ، الطبراني ، ج2 ص : 100.
2- التوبة : 64. (يحذر المنافقون أن تُنزّل عليهم سورةٌ تُنبئهم بما في قلوبهم).
3- سفر إرمياء 8 : 8.
4- سورة النحل آية : 116.
5- سورة ص آية : 14. (إن كلٌ إلا كذبَ الرسل). وكذلك قوله تعالى: (وإن تُكذّبوا فقد كذّب أممٌ من قبلكم). سورة العنكبوت آية : 18.فلم يكن الكذب على مستوى أفراد بل أمم.
6- سفر إرمياء 8 : 4 ــ 12.
7- سفر عزرا7: 26.
8- ابن القيم في زاد المعاد ج2 ص : 195.
9- مسند أحمد ج1 ص: 337.
10- تم إحصاء الروايات الصحيحة حول رفض علي ابن أبي طالب العمل بسنة أبي بكر وعمر فكانت اكثر من ستة عشر رواية : في مسند الإمام أحمد بن حنبل ، مسند عثمان بن عفان، مسند العشرة المبشرة بالجنة، مسند الخلفاء الراشدين. الجزء 1 ص : 75.عن قبيصة عن أبي وائل قال : قلت لعبد الرحمن بن عوف، كيف بايعتم عثمان وتركتم عليا؟ قال : ما ذنبي بدأت بعلي ، فقلت أبايعك على كتاب الله وسنة رسول الله وسيرة أبي بكر وعمر. قال : اللهم لا ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي. قال : ثم عرضتها على عثمان فقبلها. وفي رواية الاستغاثة (فقال علي (ع) : بل أسير فيكم بكتاب الله وسنة رسوله (ص).
11- منتدى الكتاب المقدس، شخصيات الكتاب المقدس : أرتحشستا الملك.
12- قاموس الكتاب المقدس، دائرة المعارف الكتابية المسيحية ، شرح كلمة : لونجامانوس ، الملك أرتحششتا الأول : أرتحشستا. لنا وقفة في شخصية هذا الملك.
|