مأدبةُ السماءِ في قرقيسيا
من الأصولِ الموضوعيةِ الثابتةِ إسلاميًا هو أنّ اللهَ (تعالىٰ) حكيم، وأنَّ حكمتَه جعلتْ من العالمِ لوحةً كأروعِ ما تكونُ اللوحةُ المتكاملةُ من جميعِ الجهات، وأنّ قدرتَه (تعالىٰ) ما زالتْ مُطلقةً في هذا العالم، فلا شيءَ يُمكِنُه أنْ يقفَ بوجهِ الإرادةِ الإلهيةِ التي تفعلُ وفقَ الحكمةِ غير المتناهية، وهذا أمرٌ أثبتته المباحثُ الكلاميةُ في محلها.
عندما نُطالِعُ رواياتِ الملاحم، نجدُ أنَّ هناك رواياتٍ تذكر أحداثاً، هي في حقيقتها أمورٌ تُسهّلُ من عمليةِ الظهور، وتقعُ في طريقِ رفعِ بعضِ الموانعِ أو التخفيفِ من حدّتها، ومن ذلك ما تحدّثتْ به النصوصُ عن المعاركِ التي يخوضُها أعتىٰ أعداءِ الشيعةِ آنذاك، وهو السفياني، وأنه عندما يظهرُ سيواجهُ قوتين في الشام، هما قوتا (الأصهب والأبقع)، وسينتصرُ عليهما، لكنّها بلا شك ستأخذُ في إنهاكِ قوىٰ السفياني بنسبةٍ معينة، بالإضافةِ إلىٰ تخفيفِ الوطأةِ علىٰ الشيعةِ بعدمِ مواجهتهم للأصهبِ والأبقع، الأمرُ الذي عبّرتْ عنه بعضُ الرواياتِ بأنّه سيُكفىٰ الشيعةُ القتالَ معهما عندما يواجههما السفياني، وهذا من التخطيطِ الإلهي الحكيم، حيثُ يجعلُ الظالمين يقعُ بعضهم في بعضهم الآخر .
عن محمد بن مسلم قال: سمعتُ أبا جعفر الباقر يقول: «اتقوا الله، واستعينوا علىٰ ما أنتم عليه بالورعِ والاجتهادِ في طاعةِ الله... ألستم ترونَ أعداءكم يقتتلون في معاصي الله، ويقتلُ بعضُهم بعضًا علىٰ الدُنيا دونكم، وأنتم في بيوتِكم آمنون في عزلةٍ عنهم، وكفىٰ بالسفياني نقمةً لكم من عدوكم، وهو من العلاماتِ لكم، مع أنّ الفاسقَ لو قد خرج، لمكثتم شهرًا أو شهرين بعدَ خروجِه لم يكنْ عليكم بأس، حتىٰ يقتلَ خلقًا كثيرًا دونكم».
وفي هذا المضمار نفسه، نجدُ الرواياتِ تتحدّثُ عن معركةٍ عظيمةٍ تقعُ مع السفياني أيضًا، بحيث إنّ الكثيرَ من أذيالِ الجيشين المُتحاربين سيموتون فيها، حتىٰ أنّ الرواياتِ شبّهتها بالمأدبة، وأطلقتْ عليها بعضُ الروايات: مأدبة الطير؛ لكثرةِ لحومِ الجبارين التي ستأكلها الطيورُ والحيواناتُ الكاسرة.
إنّها معركةُ (قرقيسيا)، التي حدّدتْ أكثرُ الرواياتِ أنّ أحدَ طرفيها هو السفياني، وإنِ اختلفتِ الرواياتُ في الطرفِ الثاني، وأيًّا كانَ فإنَّ النتيجةَ مفيدةٌ جدًا لعمليةِ الظهورِ والتطهيرِ العامة.
أمّا الرواياتُ الواردةُ في هذا المجال فأهمها الآتي:
الرواية الأولى:
عن أبي عبدِ الله أنّه قال: «إنَّ للهِ مائدة، -وفي غيرِ هذه الرواية: مأدبةً- بقرقيسياء، يطّلعُ مطّلعُ من السماءِ فيُنادي: يا طيرَ السماء، ويا سباعَ الأرض، هلِمّوا إلىٰ الشبعِ من لحومِ الجبارين» .
هذه الروايةُ تحكي وقوعَ معركةٍ في قرقيسيا، وأنَّ لحومَ الجبارين فيها ستكونُ مأدبةً لطيرِ السماءِ وسباعِ الأرض، ولم تُبيّنْ من هما طرفا المعركة.
الرواية الثانية:
عَنْ مُيَسِّرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: «يَا مُيَسِّرُ، كَمْ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ قِرْقِيسَا؟ قُلْتُ: هِيَ قَرِيبٌ عَلَىٰ شَاطِئِ الفُرَاتِ. فَقَالَ: أَمَا إِنَّه سَيَكُونُ بِهَا وَقْعَةٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهَا مُنْذُ خَلَقَ الله (تَبَارَكَ وتعالىٰ) السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ، ولَا يَكُونُ مِثْلُهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ مَأْدُبَةٌ لِلطَّيْرِ ، تَشْبَعُ مِنْهَا سِبَاعُ الأَرْضِ، وطُيُورُ السَّمَاءِ، يُهْلَكُ فِيهَا قَيْسٌ، ولَا يَدَّعِي لَهَا دَاعِيَةٌ».
قَالَ: ورَوَىٰ غَيْرُ وَاحِدٍ وزَادَ فِيه: ويُنَادِي مُنَادٍ: هَلُمُّوا إِلَىٰ لُحُومِ الجَبَّارِينَ .
ولا تختلف هذه الرواية عن الأولىٰ في دلالتها، إلا أنها تزيد عليها في أنها أشارت إلىٰ أن ممن سيهلكون فيها هم قبيلة (قيس).
الرواية الثالثة:
عن عبدِ اللهِ بن أبي يعفور قال: «قال لي أبو جعفر الباقر: إنَّ لولدِ العباسِ والمرواني لَوقعةً بقرقيسياء، يشيبُ فيها الغلامُ الحزور ، ويرفعُ اللهُ عنهم النصر، ويوحي إلىٰ طيرِ السماءِ وسباعِ الأرض: اشبعي من لحومِ الجبّارين، ثم يخرجُ السفياني».
هذه الروايةُ حدّدتْ طرفي المعركةِ بأنَّ أحدَهما عباسي، والآخر مرواني.
وسواء كانَ المقصودُ هي النسبةَ لبني العباس وإلىٰ مروان حقيقة، أو كانَ المقصودُ هي الإشارةَ إلىٰ أنّ توجهاتهم هي توجهاتٌ عباسيةٌ مروانية، أي إنها مُناوئةٌ لأهلِ البيت، فإنّه لا فرقَ من هذه الناحية، فكلاهما سيكونُ من أعداءِ اللهِ (تعالىٰ) وأعداءِ رسوله، ومن ثمّ فإنَّ اقتتالهم أو قتلهم سيصبُّ في مصلحةِ يومِ الظهورِ عمومًا والشيعةِ خصوصًا.
الرواية الرابعة:
عن علي قال: «يظهرُ السفياني علىٰ الشام، ثم يكونُ بينهم وقعةٌ بقرقيسياء حتىٰ يشبع طيرُ السماءِ وسباعُ الأرضِ من جيفهم...» .
الرواية الخامسة:
عن الإمامِ الباقر أنّه قالَ فيما قالَ في شأنِ السفياني: «ثم يسيرُ إلىٰ الموضعِ المعروفِ بقرقيسيا، فيكونُ له بها وقعةٌ عظيمة، ولا يبقىٰ بلدٌ إلا بلغه خبره، فيداخلهم من ذلك الجزع» .
هاتانِ الروايتانِ تحدّدانِ أحدَ طرفي المعركةِ بأنّه السفياني، وأنّ لظهوره وانتصاره فيها أثرًا سيُدخِلُ الفزعَ علىٰ كُلِّ من يسمعُ به.
هذا، وإن هناك نصوصاً أخرى ذكرتْ هذه المعركة، وقد رويَتْ هذه النصوصُ عن أرطاة، وهي:
عن أرطاة قال: إذا اجتمعَ التركُ والرومُ.. ظهرَ السفياني بجيشه عليهم، فيقتلُ التركَ والرومَ بقرقيسيا، حتىٰ تشبعَ سباعُ الأرضِ من لحومهم.
وبالمعنى نفسه جاءتْ روايةٌ أخرىٰ أيضًا عن أرطاة جاءَ فيها: يدخلُ السفياني الكوفة فيسبيها ثلاثةَ أيامٍ، ... ودخوله مكةَ بعدما يُقاتلُ التركَ والرومَ بقرقيسياء..
وعن أرطاة أيضًا: ... وتخرجُ راياتٌ من المشرقِ مسودة فتنزلُ الكوفةَ فيتوارىٰ رئيسهم فيها فلا يُدرىٰ موضعه، فيتحيّنُ ذلك الجيشُ ثم يخرجُ رجلٌ كانَ مُختفيًا في بطنِ الوادي فيلي أمرَ ذلك الجيش، وأصلُ مخرجه غضبٌ ممّا صنعَ الصخري بأهلِ بيته فيسيرُ بجنودِ المشرقِ نحو الشام، ويبلغُ الصخري مسيره إليه فيتوجّهُ بجنودِ أهلِ المغربِ إليه فيلتقونَ بجبلِ الحصىٰ فيهلكُ بينهما عالمٌ كثير، ويولي المشرقي مُنصرفًا ويتبعه الصخري فيُدركه بقرقيسيا عندَ مجمعِ النهرين فيلتقيان فيفرغُ عليهما الصبرَ فيقتلُ من جنودِ المشرقي من كُلِّ عشرة سبعة... .
هذه الروايةُ تُحدِّدُ أنَّ الطرفَ الثاني للمعركةِ مع السفياني هو (المشرقي)، ولم تُحدِّدِ الروايةُ هويته أكثر من أنّه (مشرقي)، نعم، أشارتِ الروايةُ في بدايتِها إلىٰ أنّه يأتي براياته من المشرق، لذلك سمّته بالمشرقي، نسبةً إلىٰ الشرق.
والمُلاحَظُ في هذه الرواياتِ أنّها تؤكِّدُ على انتصارِ السفياني على أعدائه، فلا يطمئنُّ القلبُ إليها، خصوصًا أنَّ راويها هو (أرطاة) وهو هو، فيُحتملُ أنّها من موضوعاته لإظهارِ السفياني بمظهرِ البطلِ المُنتصر، والهدفُ من وراءِ ذلك لا يخفى على اللبيب.
هذه مُجملُ الرواياتِ التي تعرّضتْ لمعركةِ قرقيسيا، مأدبةِ الطيورِ والسباع، وقد لاحظنا أنَّ أكثرَها يؤكِّدُ علىٰ أنَّ أحدَ طرفي المعركة هو السفياني، ولكنّها اختلفتْ في الطرفِ الثاني، فمرةً كانَ هو التركَ والروم، وأخرىٰ الرجلَ المشرقي، وأشارتْ بعضُها إلىٰ هلاكِ (قيس)، وبعضها أشارتْ إلىٰ اشتراكِ بني العباسِ وبني مروان فيها، وقد يكونُ في هذا إشارةٌ إلىٰ أنّ تلك القوىٰ تجتمعُ كُلّها ضدّ السفياني؛ لأنّه يُهدِّدُ مصالحهم.
وعلىٰ كُلِّ حالٍ، فإنَّ هذه المعركةَ وما تفرزهُ من إزهاقِ الكثيرِ من نفوسِ أتباعِ طرفيها –وكُلّهم أو جلّهم من أعداءِ المذهبِ الحقّ-سيكونُ لها مردودٌ عمليٌ فيما يتعلّقُ بالظهورِ المُقدّس للإمامِ المهدي.
|