• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : باعوا غزة بمصالح معدودة وكانوا فيها من الزاهدين .
                          • الكاتب : احمد بن ناصر المعمري .

باعوا غزة بمصالح معدودة وكانوا فيها من الزاهدين

بلغ السيل الزبى، ولا زالت الأمة كأيدي سبا، في مشهد أبرز من يحضره الردى، في غزة العزة التي تواجه وحدها جمعا من أعتى أساطيل العدا، ترى أحسنهم حالا بها من يخرج من بين الركام حيا، ليواسي من ينزف دما، ويواسي من بُترت رجلاه، من قد انكسر ظهره وتشللت رجلاه ويداه، ويواسي من استشهد له أخوه وطفلاه، من يجمع بالأكياس أشلاء أبنائه وحليلته وأبواه.

ما أشبه الليلة بالبارحة، وتتابع القارعة علينا بالقارعة، وكأن التاريخ يستنسخ نفسه، والأحمق من درس أيامه وعبره ورفسه، لنشهد مجددا مصير ملوك الطوائف، ولا يُردُّ الملكُ وقتها بالعيون الذوارف، يوم لا ينفع العتاب بــ”ابكِ مِثلَ النساءِ مُلكاً مُضاعاً لم تُحافظ عليه مِثلَ الرِّجَالِ”، “يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلَا رِجَالَ، حُلُومُ الْأَطْفَالِ، وَعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ”، قد علم الله انبعاثهم فتثبطهم، وشخّص الله ما في صدورهم ففضحهم، فقد آثروا على االله ورسوله الولد والتلد وريع التجارة وأطيب المساكن، ليقلبها الله كما توعد بالآية كالمدائن “قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ”، كم من أعلام دول أنفسهم لا ينفعون، ومع ذلك كل حزب بما لديهم فرحون، فقد لبس بنو عباد وبنو هود وبنو الأغلب وبنو نون وبنو رزين التيجان، لكنهم يقدمون الطاعة لملوك الصلبان، أعزّة على المؤمنين، أذلة على الكافرين، انشغلوا بعلو البنيان، وعمدوا على تخريب الإنسان، ((وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ))، ((فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ))، وقال قال فيهم ابن حزم ما ساءهم، فلم يستفيقوا حتى جاءهم ما جاءهم: “فضيحة! أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام يسمَّوْن أمير المؤمنين في وقت واحد… ، فهذه أُخْلوقة لم يُسمع بمثلها”!، ولك أن تتخيل أصناف الهوان والذل والفجور في الخصومة جراء إشباع نزواتهم، واللهث للحفاظ على ثرواتهم.

ما يحدث لغزة من خذلان، قد حدث لطليطلة سالفا مع من قبضوا الأثمان، فعوضا عن نجدتها، ويكونوا في اللقاء معهم ابن بجدتها، أرسل بعضهم سرايا سرا مع الصليبيين لحصار القلعة، ولم يحصلوا على درهم واحد بعدها من قتل إخوانهم بتلك الوقعة، وهذا مصير العملاء، يطمعون بالكثير حتى يرضوا بالأخير بعظمة الوكلاء، وهذا مثال على ما ذكرت، وهنالك المزيد مما ادخرت، مما ذكر عن بنود اتفاق صاحب إشبيلية، مع قائد الحملة الصليبية، يسلمه فيها رأس أخيه للقتل، ليلقى عار الدهر للأزل، وكأنه اتفاق حالي، ولو اختلف الثمن المالي: “بعث صاحب أشبيلبية وزيره ابن عمار ليتفاوض مع ألفونسو، وتمت المعاهدة والاتفاق على ما يلي:

– لا يعترض المعتمد على مشروع ألفونسو القاضي بالاستيلاء على طليطلة.

– يُؤَدِّي المعتمد للملك القشتالي الجزية سنويًّا.

– يُسمح للمعتمد بغزو أراضي طليطلة الجنوبية على أن يُسَلِّمَ منها إلى الملك القشتالي الأراضي الواقعة شمالي سيرامورينا.”

كسر نصل أخيه الذي هو نصله، وبان معدن كل واحد وأصله، يبيعون فيها إخوتهم وحرم المسلمين بمصالح مؤقّتة وكانوا فيهم من الزاهدين، فلم يشعروا بعدهم إلا وقد إلتفّت حول أعناقهم السكاكين، فيا لهم من حمقى ومساكين، وفيهم صدق معاصرهم ابن حزم، المعروف بالإصلاح والحزم: “والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حُرُم المسلمين وأبنائهم ورجالهم يحملونهم أسارى إلى بلادهم..، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعا فأخلوْها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم”!! فقبح الله تلك السير بعد الفتوح، بما ذرّوا من ملح على جسد أمتهم المليء بالجروح، بدل أن يداوا أمتهم المثخنة بالقروح، فلنا فيهم عبرة لمن خاف الله وخاف وعيد، لمن يسارع الآن في تقديم يد الطاعة للصهيوني المعتدي، الذي لا يرضى لنا إلا أن نخدمه كالعبيد، ((فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَىٰ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ))، ((ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ))، ((إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ))، فــ(ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا)، ودفعوا الجزية للصليبيين (عن يد وهم صاغرون)، فدفعوا في بادئ الأمر الجزية عشرة أرطال من الذهب الخالص، حتى أوصلوها لثلاثين رطلا وقد افتقر الناس وهم خانعون بالمجالس، ولم يستيقظوا إلا قليلا، وناموا بعدها مقيلا، حتى تساقطوا كقطع النرد، وذابوا وفنوا بتآمرهم كحبات البرد.

إن أعظم ما بليت به الأمم جميعا حين تعزم على قتال محتل أو على الصعود، وجود المرجفين بها الداعين للقعود، فهم الداء العضال الداخلي الذي يصعب علاجه، إلا أن يغالبهم أهل الشرف ورجاله، لأن وقت خور الأمم، تتغلب الانهزامية على الإقدام، ولغة المصالح على المبادئ، ودرهم اللئيم على موقف الشريف، وهنا تكون الملحمة الأصعب نحو الانطلاق، وتكاتف الأحرار هو الأهم على الإطلاق، فهؤلاء القوم يقلبون الحقائق، ويلوون أعناق الآيات والاحاديث والوثائق، ((لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي ۚ أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ۗ))، والله ذكر لنا أن الصفوة فوزها ليس في كثرة عددها، فالله يقول في كتابه العزيز: ((فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ))، ((كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ))، ((فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ))، وانتقد الله الشعور بالثقة من الكثرة والعتاد، ونسيان إن الإيمان به هو أقوى العتاد ((وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ))، فقوة الثلة المرابطة في إيمانها ووحدتها، وكفاحها المستمر، فكذلك الدواء المرّ، رغم التضحيات والتحديات والألم، فإن الحقوق لا تسترجع من الغاشمين بخط القلم.

إن المحتل الصهيوني من المستحيل أن ينعم براحة البال، فنحن لديه شرّ وبال، فلا يأمن الدول الإسلامية أبدا، فكان لا بد من تفريقهم بددا، لأنهم يفوقونه عددا وجماعة، ومواردا ومساحة، فيعمد لضرب أي تهديد له بين المشرق العربي وغربه، كما فعل مع تونس والعراق ليحقق بعض إربه، ويعمد لخلق صراعات بين هذه الأمة يقتات من خلالها من مبدأ (فرّق تسد)، (وعكّر الماء لكي تصطاد)، فكان لزاما أن تبقى حدود هذا العدو مشتعلة دوما، وليُحجّمَ من مساعيه لا بدّ أن لا يهنأ شذاذ الآفاق نوما، وبهذه المقاومة، والتضحيات المتراكمة، والمعارك السابقة المتعاقبة، نجح المناضلون في تكوين جيل صهرته الخطوب، مشمر الساعد بقلب غضوب، تمكن من صنع الأسلحة من أبسط الأدوات المتاحة، فحفر الأنفاق وصنع العتاد تاركا الدعة والراحة، فهذا الجيل المؤمن بالله ونصره، المصمّم المخطّط المصنّع المنظّم هو الأقدر لصدّ العدوّ ودحره، فلا براءة ذمة مع الله في إمداده ودعمه، وأضعف الإيمان أن يكون بالسر، إن لم يكن فلزاما علينا أن نقوي من ساعده وعزمه، وأضعف الإيمان أن يكون بالسر، إن لم يكن أحد مثل عمر ينصر الله به الحق بالجهر، وإن الذين طمعوا بالسلم مع الأعداء مقابل التضحية بقومهم، ستصل النار عما قريب لدورهم، ويعلق بهم من ذلك ما يسطر أبد الدهر، وعظيم الوزر، وهذا ما حدث بالضبط لبغداد حين ظنت أنها بعيدة عن طوفان المغول، وكما فعلت مدن الشام حين توافدت الحملات الصليبية بكل جمع مهول، وكما فعل ملوك الطوائف بطليطلة قبيل الأفول، وكلهم ذاق بالأخير من نفس الكأس، كما أصاب بني ذهل مرة من جساس، ليحق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما من مسلمٍ يَخذِلُ امرأً مسلمًا في موضِعٍ تُنتهكُ فيه حُرمتُه ويُنتقَصُ فيه من عِرضِه ؛ إلا خَذَلَه اللهُ في مواطنَ يُحبُ فيه نصرتَه ، وما من امرئٍ ينصرُ مسلمًا في موضعٍ يُنتقَصُ فيه من عرضِه ، ويُنتهكُ فيه من حُرمتِه ؛ إلا نصرَه اللهُ في مواطنَ يُحبُ فيه نصرتَه.))

إن لم تكن حمية وعزة الإسلام تنهض هذه الأمة، فأين حمية الجاهلية على الأقل؟ الحمية التي تمنع الجار، وترد الضيم، وتنصف الضعيف؟ أين العربي الذي يثور لكلمة، كما فعل عمرو بن كلثوم بالملك عمرو بن هند، وكما فعل المري مع أبي جعفر الكلابي، وأين الذين ثاروا لخيل كداحس والغبراء، أو لناقة كالبسوس؟ هذه حميتهم لكلمة أو خيل أو ناقة، فكيف حميتهم لمن قتل فردا منهم؟! أين أحفاد الصناديد القائلين:

” أَلا لا يَعلَمُ الأَقوامُ أَنّا *** تَضَعضَعنا وَأَنّا قَد وَنينا

أَلا لا يَجهَلَن أَحَدٌ عَلَينا *** فَنَجهَلَ فَوقَ جَهلِ الجاهِلينا “




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=188536
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 11 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 12