• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع :  مجتمع الحسين .. العالم في أسرة واحدة! .
                          • الكاتب : د . حميد رياح .

 مجتمع الحسين .. العالم في أسرة واحدة!

منذ سنوات وأنا أراجع نظريات علم إجتماع وعلم النفس والانثروبولوجيا. افكر في واقع العراق وفرص التغير مثل الكثيرين. بالطبع هو ليس اختصاص أمارسه لكنه شغف ودراسة في المنهج الفلسفي منذ الصغر وواجب أمام هذا الوطن العظيم. ومع أمتلاك بعض أدوات وآليات الباحث المحترف كان هذا السعي للبحث عن جواب لسؤال يتردد باستمرار ماذا يجري في زيارة الأربعين وأي مجتمع جديد يتشكل في ضوء أزمة وانهيار القيم عالميا!؟ 
بعد تأمل عميق وطويل حول ما يجري في زيارة الأربعين. رأيت أن الإمام الحسين يحول الناس المتفرقة والمتباعده إلى أسرة واحدة ومن أسرة الى مجتمع ينتمي إلى الحسين. مجتمع يتشكل ليبني عالم مثالي لإنسان جديد. من خواص هذا المجتمع الحب والتعاون والمشاركة والخدمة والعطاء ولعل هذه الخاصية الاخيرة مهمة وجذرها الأول هو أن تكون حسينا يعني أن تكون يد الله! يعني أن تعطي بلا مقابل .. يعني أن تحب بلا مقابل .. يعني أن تخدم بلا مقابل فيتجلى البعد الالهي في صورة هذا الانسان المعطي. صفات وخصال كبيرة يكون الفرد في حياته العادية بعيداً عنها وربما البعض يكون على غير هذه الأخلاق لكنه تحت سلطة المجتمع الصالح وهيمنة روح الحسين الملهمة يتحول الفرد إلى شخص اخر مرتبط وجوديا بالله من خلال الإمام الحسين صلوات الله عليه.
نسق حسيني جديد يتشكل في الواقع قبل التنظير له وقبل أن يُطرح في الفكر، ولعلها سابقة تاريخية عصية على الفهم. قدرة النهضة الحسينة على إصلاح النفوس قدرة عجيبة! والسؤال الذي يطرح كل عام كيف يستطيع مصدر مجهول أن يحشد ملايين من الجماهير في مكان محدد خلال موسم سنوي تطوعي؟ مهرجان سنوي تتجمع فيه الملايين من مختلف الاجناس والأعراق والاماكن. تجتمع هذه الحشود الغفيرة من الجماهير وكأنها أسرة واحدة يعرف بعضها بعضا. تجتمع لتتنافس إيجابيا في إظهار الجميل من صفاتها بلا تأسيس معرفي ولا دعاية ولا رعاية بل تسير الأمور بانسيابية وديناميكية وحيوية وعفوية وتمول ذاتي تطوعي رغم حرارة الجو وصعوبة الاوضاع اللوجستية من الكهرباء إلى الماء الصالح للشرب، لكن رغم كل تلك المعوقات يكون الجميع متفاهم متناغم يعمل بإنسجام تام ويعرف كل تكليفه وبرنامجه للقيام بالمطلوب بشكل مثالي يوتيوبي! إنها روح الولي التي تتجسد في المجموع  وتهمين في سلطة المجتمع. 
في زيارة الأربعين يتحد الفرد بقوة المجتمع المثالي الصالح، يتجلى هذا الأمر بشكل واضح. فالجماهير التي تتجمع لتأدية الزيارة تتحول إلى مجتمع متكامل يعمل بنظام ذاتي متكامل. يتحمل الجميع مسؤولياتهم بشكل تلقائي ويقدمون الخدمات لبعضهم البعض بلا توقع لأي مقابل. يقومون بواجباتهم العبادية بإقبال وحيوية حتى يتخل للزائر أول مرة انه من مشاهد يوم القيامة. وهنا لا اريد اقارن بفرضية الحج فالأمر واضح جلي لكل باحث. هكذا يتحول الفرد من مجرد إنسان بسيط ومستهلك إلى معطي ومنتج وبطل ملهم وله اليد العليا انها كرامة الحسين يورثها لأوليائه. وهكذا عندما تنتهي الزيارة الكل يتولى الى الظل ويقول ﴿.. رَبِّ إِنّي لِما أَنزَلتَ إِلَيَّ مِن خَيرٍ فَقيرٌ﴾ فكيف لا تكون معجزة!
ومن هنا، يمكننا أن نرى الأبعاد الاجتماعية لزيارة الأربعين. فهي ليست مجرد زيارة دينية، بل هي تجربة اجتماعية فريدة تعكس قيم التعاون والتكافل والتضحية التي تميز المجتمع الإسلامي. وهذه القيم هي بالضبط ما يحتاجه العالم اليوم لمواجهة التحديات المعقدة التي يمر بها. هنا يمكننا القول أن زيارة الأربعين هي تجربة إجتماعية فريدة تعكس القيم الإنسانية العالية التي يمكن أن تكون مصدر إلهام للعالم بأسره. فهي تجمع بين الروحانية والتعاون الاجتماعي بطريقة لا تقل عن المعجزة.
عدد من النظريات الاجتماعية لفلاسفة ومفكرين في الغرب كانت تدرس الظواهر الاجتماعية وتحللها وتدرس تاثير المجتمع على الفرد على سبيل المثال إميل دوركايم، غوستاف لوبان، أريك فريم، آرثر ميلر، كارل يونج، فيليب زيمباردينو، ستانلي ميلغرام، حنة أرنت، سوزان فانشي واخرون مجمع نظرياتهم وتجاربهم الاجتماعية تؤكد ان الفرد يصلح بالمجتمع وتتغير صفاته وطبائعه. وكان لكل واحد من هولاء المفكرين نظريات وتجارب مختلفة يدرسون تاثير الجماعة والمجتمع على الفرد وكيف يعاد بناء سلوكه من جديد. مجمل تلك النظريات تدرس تجمعات الجماهير وتثبت ان لها قواعد واصول تختلف عن اصول وقواعد الفرد. وتؤثر في سلوك الفرد وطبائعة وان الجماعة تعيد برمجة الفرد وفق اخلاقها واصولها سلبا او ايجابا. وهكذا تتلون طباع وسلوكيات هذه الجماعات بلون وروح الملهم الذي يكون البطل. 
في زيارة الاربعين كانت التجربة مثالية ايجابية بكل أبعادها إنها الجماهير ارتدت ثوب البطل والملهم وتخلقت بصفاته واخلاقه كل فرد يحاول ان يحاكي روح الولي ويستلهما فيضحي ويعطي فكانت هنالك محاكاة حقيقية لواقع معركة الطف.
 

وبالتالي، يمكننا القول أن زيارة الأربعين تعكس القوة الهائلة للجماهير عندما تتحد لتحقيق هدف مشترك. وهي تعكس أيضاً القدرة الفريدة للمجتمع على تحويل الفرد وتغيير صفاته وطبائعه نحو الأفضل.

في الاخير اطرح هذا التساؤل والمقترح البسيط أمام الحكومة من رئاسة الوزراء ووزارة التعليم العالي. نعم هنالك مراكز بحثية كثيرة في العراق وهي في الأغلب الأعم غير منتجة وغير فاعلة مثل حملة الشهادات العليا ولا أريد اخوض في هذا الجانب، لكن أمام هذا الواقع المتجدد الا يمكن لجامعتي كربلاء والكوفة ان تؤسس لمركز بحثي بالتعاون مع العتبات الثلاث لإنشاء مركز بحثي يأتي باساتذة العلوم الانسانية -السوسيولوجيا والسيكولوجيا والأنثروبولوجيا- وينتخب لهم أفضل طلبة ماجستير لتقديم أطاريح دكتوراة مختلفة لدراسة هذه الظاهرة بكل أبعادها؟ فنكون خلال أربع سنوات أو خمس أمام دراسات موضوعية تؤصل عمق المعنى الذي تقدمه تجربة زيارة الاربعين كنموذج إسلامي وكشعيرة تكون مصنع لاعادة برمجة الانسان للجميل من الفضائل الاخلاقية وتبين للانسانية جميعا معاني متجددة للخير والشر والعدل والظلم والتضحية والأنانية. انها تقدم تجربة حية من واقع اخر والنتيجة انها تصلح ان تكون مصدر جديد للعطاء الانساني وإغناء لتجربة الإنسان مثل هذه التجربة الروحية العظيمة تخدم الانسان والمجتمع وتقدم خيارا حضاريا جديدا للروحانية مقابل المادية التي أماتت الإنسان.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=186497
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 09 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 13