• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : بحوث ودراسات .
                    • الموضوع : الغلو-ج3: آثارُ الغلوّ ولوازمُه .
                          • الكاتب : د . مظفر الشريفي .

الغلو-ج3: آثارُ الغلوّ ولوازمُه

بحث مُستل من كتاب (بل عبادٌ مكرمون- دراسة قرآنية وحديثية في نقد الغلوّ) لكاتب المقال

بسم الله الرحمن الرحيم

إن رفعَ أهل البيت صلوات الله عليهم فوق حد البشرية التي وضعهم الله فيها كما نص كتابه الكريم وإعطائَهم صفات ربوبية، بل وإلٰهية، وانتشارَ هذا الفكر في زماننا بسبب نشاط الغلاة في القنوات الفضائية وغيرها من وسائل النشر الحديثة أدّى إلى تسلل الفكر المغالي بطريقة ناعمة إلى أذهان ومشاعر الناس، لأن شيعة أهل البيت صلوات الله عليهم قد تعلقوا بأئمتهم وذابوا حباً بهم ويحبون سماع فضائلهم. وما شَعرَ الكثير منهم بأن العديد من المتصدِّين لتوجيه الناس قد تجاوزوا الحدّ في ذلك وأعرضوا عن كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وركنوا إلى أهوائهم.

عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه من خطبة له: {إِنَّما بَدءُ وُقُوعِ الفِتَنِ أَهواءٌ تُتَّبَعُ وَأَحكامٌ تُبتَدَعُ، يُخالَفُ فِيها كِتابُ اللهِ، وَيَتَوَلَّى عَلَيها رِجالٌ رِجالاً عَلَى غَيرِ دِينِ اللهِ. فَلَو أَنَّ الباطِلَ خَلَصَ مِن مِزاجِ الحَقِّ لَم يَخْفَ عَلَى المُرتادِينَ، وَلَو أَنَّ الحَقَّ خَلَصَ مِن لَبْسِ الباطِلِ انقَطَعَت عنَهُ أَلسُنُ المُعانِدِينَ. وَلَكِنْ يُؤخَذُ مِن هَذا ضِغثٌ وَمِن هَذا ضِغثٌ فَيُمزَجانِ، فَهُنالِكَ يَستَولِي الشَّيطانُ عَلَى أوَليِائهِ، وَيَنجُو الَّذِينَ سَبَقَت لَهُم مِنَ اللهِ الحُسنى}[1].

وقد ساعد على ذلك التسلل عدمُ تدبّر القرآن الكريم من قبل الكثير من الناس وجهلُهم بالتفسير الصحيح لآياته، وقلةُ معرفتهم بمحكم كلام أهل البيت صلوات الله عليهم وبالصحيح من سيرتهم، وعدمُ اتباع المنهجية الصحيحة في معرفة عقائد الإسلام. وقد ولّد الغلوّ آثاراً متعددة ومتشعبة تختلف سعة وضيقاً حسب كل أثر، ويصعب احصاء جميع الآثار واللوازم المترتبة عليها. ونعرض فيما يلي لما يرِد ببالنا من آثار سلبية للفكر المغالي:

1) حدوث خلل كبير في معرفة وتفهم أولويات العقائد كما يريدها الله تعالى. فقد أصبحت الإمامة أهم العقائد فعلياً عند كثير من الناس، وبكلام أدق: مقامات الأئمة سلام الله عليهم والجانب العاطفي المتعلق بسيرتهم وليس الإمامة نفسها التي يجهل الكثير معناها وكيفية إثباتها بأدلتها الصحيحة. وأصبحت محورية الدين هي تلك المقامات والشعائر المتعلقة بوفيات أهل البيت صلوات الله عليهم بدل أن تكون المحورية متجهة نحو التوحيد وصفات الله وعظمته ونحو كتاب الله تعالى والآخرة ومعرفة النبوة والإمامة. وقد نتج عن الإفراط في أمر الجانب العاطفي من الإمامة قلة اهتمام ملحوظ بالقرآن الكريم وبقية العقائد، حيث:

أ‌- يوجد إبهام لدى الكثير في أمر التوحيد، ولم يبقَ صدى لكلمتي "الشرك" و "الغلوّ" لوجود من يُسوِّغهما وينفي أنهما شرك وغلوّ ما دامتا تتعلقان بمقامات أهل البيت صلوات الله عليهم كما مرّ علينا في ادعاء البعض أن الأئمة سلام الله عليهم عندهم علم الله سبحانه وأنهم هم من خَلَقنا وغير هذا من مخالفات صريحة لكتاب الله تعالى. وبذلك التبس أمر التوحيد، فقد أشرك الغلاةُ أهلَ البيت صلوات الله عليهم بعلم الله سبحانه فقالوا بأن عندهم علمه تعالى، وأشركوهم بقدرته سبحانه فقالوا إنهم يقدرون على كل شيء. وقال بعضهم بأن الخالق الفعلي لكل شيء ليس الله - تعالى عما يقولون - بل أهل البيت صلوات الله عليهم، وأشركوهم بصفاته جلّ وعلا فقالوا بأنهم يمثلون أسمائه الحسنى وأن لهم صفات إلٰهية، وقال البعض بقِدَمهم، أي أزَلِيَّتهم. وبذا لم يبقَ فرق عندهم بين الله تعالى وبين أهل البيت صلوات الله عليهم إلا أنه سبحانه واجب الوجود وهم ممكنو الوجود.

وإذا كان الأمر كذلك فكيف سنعرض الدين على الناس وكيف سنحاجج الملحدين ونستدل على التوحيد الإلهي؟ وما الذي سنقوله لمن يعتنق النصرانية من المسلمين أو يميل لها أو كيف سنردّ أباطيلها إن كان البعض منا يقول في النبي صلى الله عليه وآله بمثل مقالتهم في عيسى سلام الله عليه؟ وأعني جماعة الصادر الأول ومَن على شاكلتهم ممن توصل لنفس نتائجهم وإن اختلف معهم في الأسس، فالحق أنه لا فرق معتداً به بين الفريقين، ولكن النصارى أكثر صراحة وجرأة[2]. والخلل في التوحيد نتيجة القول بالولايات الشاملة وغيرها من أقوال الغلوّ واضح ويشمل القائلين بها، أي لا يقولن قائل إن هذه الأقوال لم تؤثر في توحيد أصحابها فالخلل بيِّن.

ولأن التوحيد وما يتعلق بالله وعظمته وآلائه لم يعد هو الأساس عند القوم، فقد استسهل بعض أدعياء العلم وبعض الخطباء والرواديد توهين عظمة الله تعالى في نفوسهم ونفوس الناس، فتراهم ينطقون بكلمات كفرية بسهولة، كقول أحدهم: (قاتِلُ الحسين بمنزلة قاتل الله عزّ وجلّ)، أو قول أحد الخطباء حول قدرته على الإبكاء: (لو تجيبولي جبار السماوات أﺑﭽّﻴﻪ لكم)، وغير هذا مما هو موجود في موقع "يوتيوب" وأصبح مادة دسمة لمن يريد تشويه مذهب التشيع والانتقاص منه.

ب‌- لم يعد كتاب الله عند البعض هو الثقل الأكبر، ولا تُعرض عليه الأحاديث إذا كانت متعلقة بمقامات وكرامات أهل البيت صلوات الله عليهم، ويُترك الغلوّ في بعضها على عواهنه كما مرّ علينا في طيّات البحث. وهذا رغم وجود محاولات مشكورة من قبل بعض المؤسسات الدينية في الاهتمام بالقرآن الكريم تلاوة ودراسات. ولكن يبقى القدح المعلّى في المنهجية السائدة اليوم في العقائد هي للروايات. فلا يردّ القوم أي رواية تتعلق بمقامات وكرامات أهل البيت صلوات الله عليهم ومن يتعلق بهم كبعض نسائهم وأولادهم، ولو لم يكن لها أصل ولا سند في مصادر الحديث، بل أحياناً حتى لو لم تكن رواية وإنما رؤيا في منام أو كلمة لأحد العلماء أو الكتّاب أو غير هذا مما لا حجة فيه على أحد، وهجروا العرض على كتاب الله والتدبر فيه واتخذوه ورائهم ظهرياً.

ولم تعد أولويات القرآن كالتوحيد وصفات الله والمعاد وقصص الأنبياء سلام الله عليهم هي نفسها أولويات الخطاب الديني. بل وصل فساد عقيدة البعض إلى حد استصغار قدر القرآن الكريم والتنظير لهذا التوهين كما فعل أحدهم[3] حين جزم بأنّ من يملك أبسط قابلية في البلاغة سيلاحظ أن كلام أمير المؤمنين سلام الله عليه هو أفضل بلاغة بفرق هائل من بلاغة القرآن الكريم وحديث النبي صلى الله عليه وآله، ولم نرَ نكيراً لكلامه الشنيع هذا مع شديد الأسف.

ومقابل هذا فإن أهل البيت صلوات الله عليهم قد عظّموا القرآن أيّما تعظيم وحثُّوا على الاهتمام به، فهو كتاب الله عزّ وجلّ، وهو الثقل الأكبر من الثقلين الذَين وصى بهما رسول الله صلى الله عليه وآله في حديث الثقلين بقوله: {أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين، الثقل الأكبر كتاب الله عزّ وجلّ، طرف بيد الله عزّ وجلّ وطرف بأيديكم فتمسكوا به، والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي. فإنه نبأني اللطيف الخبير انهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض}[4]. وقد أكد أمير المؤمنين سلام الله عليه مراراً على التمسك بكتاب الله وبيّن عظمته في خطبه في "نهج البلاغة" كما في الخطبة 176: {واعلَمُوا أَنَّ هَذا القُرآنَ هُوَ النّاصِحُ الَّذِي لا يَغُشُّ، والهادِي الَّذِي لا يُضِلُّ، والمُحَدِّثُ الَّذِي لا يَكذِبُ. وما جالَسَ هَذا القُرآنَ أَحَدٌ إِلا قامَ عَنه بِزِيادَةٍ أَو نُقصانٍ: زِيادَةٍ فِي هُدًى أَو نُقصانٍ مِن عَمًى. واعلَمُوا أَنَّه لَيسَ عَلَى أَحَدٍ بَعدَ القُرآنِ مِن فاقَةٍ، ولا لأَحَدٍ قَبلَ القُرآنِ مِن غِنًى. فَاستَشفُوه مِن أَدوائِكُم، واستَعِينُوا بِه عَلَى لأوائِكُم. فَإِنَّ فِيه شِفاءً مِن أَكبَرِ الدّاءِ، وهُوَ الكُفرُ والنِّفاقُ والغَيُّ والضَّلالُ. فَاسأَلُوا اللهَ بِه وتَوَجَّهُوا إِلَيه بِحُبِّه، ولا تَسأَلُوا بِه خَلقَه. إِنَّه ما تَوَجَّه العِبادُ إِلَى اللهِ تَعالَى بِمِثلِه. واعلَمُوا أَنَّه شافِعٌ مُشَفَّعٌ وقائِلٌ مُصَدَّقٌ، وأَنَّه مَن شَفَعَ لَه القُرآنُ يَومَ القِيامَةِ شُفِّعَ فِيه، ومَن مَحَلَ بِه القُرآنُ يَومَ القِيامَةِ صُدِّقَ عَلَيه، فَإِنَّه يُنادِي مُنادٍ يَومَ القِيامَةِ: (أَلا إِنَّ كُلَّ حارِثٍ مُبتَلًى فِي حَرثِه وعاقِبَةِ عَمَلِه غَيرَ حَرَثَةِ القُرآنِ) فَكُونُوا مِن حَرَثَتِه وأَتباعِه، واستَدِلُّوه عَلَى رَبِّكُم، واستَنصِحُوه عَلَى أَنفُسِكُم، واتَّهِمُوا عَلَيه آراءَكُم، واستَغِشُّوا فِيه أَهواءَكُم}. وورد عن الإمام السجاد سلام الله عليه: {لَوْ ماتَ مَنْ بَينَ المَشرِقِ والمَغرِبِ لَمَا استَوحَشتُ بَعدَ أَنْ يَكُونَ القُرآنُ مَعِي}[5].

ج‌- تراجعَ احترام النبوة والأنبياء سلام الله عليهم لدى العديد من الخطباء، ونشأ أسلوب عند بعضهم هو أنهم حينما يذكرون فضائل الأئمة سلام الله عليهم فهم لا يكتفون بهذا، وإنما يقارنون بينهم وبين الأنبياء السابقين سلام الله عليهم وينتقصون من الأنبياء سلام الله عليهم بتعابير مختلفة غير لائقة لبيان أنهم أقل شأناً وأقل فضيلة. وكأن الله تعالى لم يقل: ﴿لَقَد كانَ فِي قَصَصِهِم عِبرَةٌ لأُولِي الأَلبابِ﴾ [سورة يوسف ع: 111] وكذلك: ﴿أُولٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقتَدِه﴾ [سورة الأنعام: 90]. بل ترقّى بعضهم في الغلوّ ليفضِّلوا بعض أولاد وزوجات الأئمة سلام الله عليهم على الأنبياء سلام الله عليهم.

أما نبينا صلى الله عليه وآله فليس له تلك الحظوة المرجوة، فذِكرُه تناقَص مقابل ذكر بعض أهل بيته سلام الله عليهم على الألسن وفيما تنشره القنوات من أناشيد تلهج بذكرهم، خاصة أمير المؤمنين والزهراء والحسين والمهدي سلام الله عليهم. وأصبح البعض يفَضِّلون أمير المؤمنين سلام الله عليه على رسول الله صلى الله عليه وآله بذكر روايات مختلقة وبكلمات يُفهم منها هذا التفضيل حتى لو حاولوا تحريف الكلام خلاف هذا كالرواية المزعومة (ولولا علي لما خلقتك)، وكقول بعضهم[6]: (وفي قصة صعود الامام على كتف الرسول، قالوا في توجيهها ان الامامة لا تتمكن من حمل النبوة! لكن من الذي دافع عن النبي في الحروب؟! أرى أن بالإمكان طرح وجهين آخرين: الأول: أن ابن البيت أولى بالبيت من غيره، وهؤلاء حاولوا ان يدنسوا بيت الله، ومن ولد في البيت يجب ان يطهر البيت. الثاني: ان علياً من أسماء الله.. وللأسماء تجسيدات متعددة، واحد منها التمثال، فالتمثال تجسيد للاسم، فلو جسدت علياً على صخرة هل يجوز وضع رجلك عليه؟ وفي هذا الحكم يتساوى الرسول مع غيره في الاحكام الفرعية، فلو وضع النبي قدمه الشريفة على علي لكان قد وضعها على اسم الله تعالى، ويتساوى في ذلك الرسول مع غيره. لا يقال محمد كذلك فهو من أسماء الله.. لأن اسم محمد مشتق من أسماء الله، أما اسم علي فهو نفس الاسم.. الحمد ليس اسماً.. أما علي فهو اسم لله تبارك وتعالى، وهو الاسم المشترك الوحيد بين الله وبين نبي او امام). ولا يغني قوله بعد هذا الكلام غير الصحيح عما يُفهم منه بوضوح: (لا شك أن النبي أشرف من كل من أتى بعده أو قبله، لكن هذا لا يعني ان تنكر خصائص علي بن ابي طالب عليه السلام)، فهذا الكلام أصبح كذرِّ الرماد في العيون. ولا يظنن أحد أن أمثال هؤلاء المنتقصين من النبوة والأنبياء سلام الله عليهم بالحجج الواهية قليلون ولا أن تأثيرهم قليل، خاصة مع تكرار افتراءاتهم وطول المدة التي يكررون بها هذا والحظوة التي لهم في التوجيه والتبليغ واستعمال الوسائل الحديثة. وقد انعكس هذا على الناس فترى بعضهم يجاهر بأفضلية أمير المؤمنين سلام الله عليه على رسول الله صلى الله عليه وآله.

مما يلاحظ أننا نولي اهتماماً لما يقوله الخطباء، وذلك لأنهم أصبحوا في زماننا - على الأقل في العراق - هم من يمسك بأزمة التوجيه وصياغة العقلية الشيعية، فالناس لا يقرؤون ويتلقون ثقافتهم الدينية من أهل المنابر. 

ونرجو أن يختبر الناس ما في دواخل أنفسهم من أولويات مرتّبة وفق ما ورد في هذه الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: {أحِبُّوا اللهَ لِما يَغذوكم به مِن نِعَمِه، وأحِبُّوني لِحُبِّ اللهِ عَزَّ وَجَلّ، وأحِبُّوا أهلَ بَيتي لِحُبِّي}[7].

د‌- قلّ على المنابر وألسنِ الناس ذكرُ الآخرة والتذكيرُ بالجنة وما فيها من نعيم والتخويفُ من النار وما فيها من عذاب، بخلاف نهج القرآن الكريم في التذكير بيوم القيامة والمعاد والجنة وترغيب المطيعين بها، والنار وتخويف العاصين منها. فلا تكاد تجد ذكراً للآيات التي تتحدث عن الآخرة والتخويف وعذاب الله تعالى ولا لأحاديث أهل البيت صلوات الله عليهم المتعلقة بالموضوع، وإنْ ذُكر شيء فإنه يُقرَن بما يُطَمئِن الناس بأن أهل البيت صلوات الله عليهم سيخلصونهم ويدخلونهم الجنة. ويوجد استغراق في ذكر بعض الأحاديث والأشعار والقصص والرؤى التي تتحدث عن انقاذ أهل البيت صلوات الله عليهم لشيعتهم بغض النظر عن معاصيهم، وإنما لمجرد الحب لهم أو لخدمتهم أو لخدمة زوارهم، بل نجد أن الخطباء قد حشروا حتى بعض الكفار في الجنة بسبب خدمة زوار الحسين سلام الله عليهم، وكأنّ هذه الخدمة أهم من الإيمان بالقرآن ورسالة الإسلام. وقد ساد أسلوب مؤسف هو تضخيم أمر شفاعة أهل البيت صلوات الله عليهم إلى حد ترسيخ فكرة أن الشيعة لا يدخلون النار، وأن علياً أو فاطمة أو الحسين سلام الله عليهم سوف ينقذون شيعتهم يوم المحشر. وقد نتج عن هذا اعتقاد كاعتقاد الفداء عند النصارى، وهو أن أهل البيت صلوات الله عليهم سينقذون شيعتهم مهما عملوا من ذنوب. فالنتيجة أن الشيعي سيكون بمأمن من الدخول في النار عندهم، لذا لا حاجة لتخويفه بتفاصيل العذاب التي ذكرها القرآن الكريم، وهذا نوع هجر للقرآن الكريم وتقليل لشأنه.

ويمكن أن يوفر هذا النهج ذريعة للتمسك بهذا الغلوّ لأنه سيُنتج ديناً يسيراً لا محاسبة فيه على المعاصي مهما كبرت وكثرت لمجرد الإتيان ببعض الأعمال الولائية كالزيارة وممارسة الشعائر. وهذا يمثل إعراضاً عما أكد عليه أهل البيت صلوات الله عليهم في أمر الشفاعة كما في الرواية المشهورة عن أبي بصير: (قال: دخلت على أم حميدة أعزيها بأبي عبد الله الصادق عليه السلام، فبكت وبكيت لبكائها، ثم قالت: يا أبا محمد، لو رأيت أبا عبد الله عليه السلام عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه ثم قال: {اجمَعوا لي كل من بيني وبينه قرابة}. قالت: فلم نترك أحداً إلا جمعناه. قالت: فنظر إليهم ثم قال: {إنّ شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة})[8].

ويبدو أن الأمر قد صار من حيث الواقع الفعلي عند الناس ليس تعويلاً على شفاعة أهل البيت صلوات الله عليهم بالمعنى الصحيح الذي هو حق لا ريب فيه، بل هو عدم التفات لحق الله في الطاعة ولجميل فعله سبحانه وكرمه وقدرته على خلقه وغضبه على العاصين.

إن الاستئناس بالغلوّ وضمانته للناس بدخول الجنة يؤدي إلى الابتعاد عن مقاصد الدين الحقة وما جاهد في سبيله رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته سلام الله عليهم لأجل إعلاء كلمة التوحيد وتحكيم الشريعة الإسلامية بواجباتها ومحرماتها، وهذا الابتعاد يجرّ إلى مذاهب باطلة كما يحدث الآن فعلاً.

وهنا من الضروري التنويه لأمر مهم هو أنه وفق ما يتداوله بعض الخطباء فإن مجرد الانتساب لمذهب التشيع سوف ينجي صاحبه ويدخله الجنة. ولو تماشينا مع هذا الادعاء فإن الانتساب لا يحدث عند غالب الناس عن تفهم ودراية بأدلة صحة المذهب وإمامة الأئمة الإثني عشر سلام الله عليهم كما يريد الله تعالى، لأن العقائد يجب تحصيل العلم بصحتها ولا يكفي فيها اتباع الآباء والعشيرة. وفي حالة التقليد في العقائد كما هو الحاصل فعلاً لدى أكثر الناس سوف لا تبقى ميزة لمن اتبع المذهب الحق على من اتبع غير المذهب الحق إذا كان أيضاً مقلداً للآخرين. ومن اتّبع المذهب الحق تقليداً للغير فإنما اتبعه لأنه وُلد في بيئة شيعية، وهذه الولادة ليست أمراً اختيارياً. فينتج أن تفضيله وإدخاله الجنة بغير حساب - رغم أنه لم يتحقق من صحة المذهب - سوف يقدح في مسألة أهم هي العدل الإلهي، أي ستكون الحجة صحيحة لمن وُلد في بيئة غير شيعية بأنه لو خلقه الله في بيئة شيعية لدخل الجنة. وحاشا لله أن يظلم أحداً.

 

2) إن الخلل في الأولويات بسبب الغلوّ لم يُصِب العقائد فقط، بل تعداها إلى الفقه والأخلاق الإسلامية أيضاً، فتركيز الحديث عن مقامات الأئمة سلام الله عليهم وكراماتهم وشعائر وفياتهم وبيان أن الجنة أصبحت مضمونة لكل من تشيع كما أسلفنا أدّى إلى قلة الاهتمام بالمسائل الفقهية وبالأخلاق، وتفشى الجهل بالأحكام الشرعية وانتشرت بعض الآفات الأخلاقية. ولا نعني بهذا أن الجهل والمشاكل الأخلاقية هي فقط بسبب التركيز على الغلوّ وما يستلزمه، وإنما هو أحد الأسباب، ويضاف له التالي: لو وفّر الخطباء والمبلغون وقتاً لبيان الأمور الفقهية والأخلاقية بدل استغراق وقتهم بما ذكرناه آنفاً لَتَبَصّر الناس أكثر بدينهم وزاد وعيهم وحسنت أخلاقهم وقلّت مشاكلهم.

وللفائدة ننقل هنا كلام الشيخ محمد آصف المحسني: (وانظروا بنظر الاعتبار إلى الكتب الأخلاقية المدوّنة الموجودة عندنا فقد مُسخت الأخلاق الإسلامية فيها إلى حد ما باحتفافها بالشعارات العرفانية والنعرات الصوفية ومبالغات الأغبياء الجهلة وبالمزخرفات اليونانية، وزينوها بالروايات الضعيفة والمجهولة ونسبتها إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام نسبة قاطعة كالمتواترات!! فأثرت على أفكار المسلمين في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والصنعة فتأخّروا عن موكب الحضارة وأُسروا في شبكة استعمار الغربيين الملحدين فخسروا دينهم ودنياهم كما أشرنا اليه في كتابنا "روش جديد اخلاق إسلامي" المطبوع قبل سنين "أيام جهادنا ضد الماركسيين السوفياتيين". فالأخلاق الاسلامية لا بد وأن تؤخذ من الكتاب والأحاديث المعتبرة من دون تسامح وتساهل في رفض غير المعتبرة وردها إلى من صدرت عنه. وكذا الاقتصاد الاسلامي والسياسة الاسلامية والتاريخ الاسلامي وفضائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأوصيائه وطرح تخيلات الغلاة والعوام والمبالغين في كل أمر، فضلاً عن الاقتصار عليهما في الحلال والحرام وأصول الشريعة وفروع العقائد والمعارف الاسلامية. والعالم المتعهد لا يخاف في هذه السبيل من مخالفته للعوام والجاهلين والمبالغين والمقلدة والكُتّاب الذين لا يحيطون بالدين علماً وفهماً حتى وإن كانوا من المشهورين. ﴿وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ﴾)[9].

3) إن الإسلام هو دين الفطرة. قال تعالى: ﴿فَأَقِم وَجهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيها لا تَبدِيلَ لِخَلقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَعلَمُونَ﴾ [سورة الروم: 30]. وتوجد روايات متعددة تبين أن المقصود هو التوحيد، فعَن زُرَارَةَ قَالَ: سَأَلتُ أَبا عَبدِ الله عليه السلام عَن قَولِ الله عَزَّ وجَلَّ: ﴿فِطرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيها﴾، قَالَ: {فَطَرَهُم جَمِيعاً عَلَى التَّوحِيدِ}[10]. وهذا يُؤدي إلى سهولة الإيمان بدين الإسلام لأنه يناغم طبيعة الإنسان كما صنعها الله تعالى، وهو لا يتلاءم مع ما يطرحه الغلاة من أفكار وتصورات مخالفة للفطرة الإنسانية حول وجود أناس خارقين يعلمون كل شيء ويقدرون على كل شيء.

ووفق ما يستلزمه قول غلاة زماننا فإن التوحيد أمره مشوش أصلاً كما بيّنا تفصيله في طيّات البحث. لذا فأي فطرة هذه التي فطرنا الله عليها؟ هل فيها كائنات تشارك الله في قدرته وعلمه كما يزعمون أم كيف حال الفطرة عندهم؟

4) إن القول بالولايات الشاملة للأئمة سلام الله عليهم سيكون بعيداً عن العقول الاعتيادية مما يصعب على الآخرين الإيمان بإمامتهم. ولو لم تكن لهم هذه الولايات فهذا أقرب للأذهان، لأنهم يبقون بشراً وفق منهج القرآن الكريم. أوْ لو كانت صفات الأئمة سلام الله عليهم بشرية فعلاً كما عرضها مشايخ الطائفة المفيد والمرتضى والطوسي فإن هذا أكثر واقعية وأكثر مناسبة للفطرة وأكثر تقبلاً من الآخر أياً كان اتجاهه. لذا فالغلوّ المنتشر اليوم يضر المذهب ولا ينفعه بشيء. وغلاة اليوم ليسوا حريصين فعلياً على نشر المذهب بعد أن أصبحوا أداة مؤثرة بيد أعداء التشيع في تشويه صورة المذهب واتهامنا بالشرك وبالابتعاد عن القرآن الكريم والتحريض ضدنا كما تشهد على ذلك مواقع الانترنيت المرئية والمكتوبة. ولو خُلِّي المذهب وهؤلاء الغلاة لأصبح منغلقاً منكفئاً على نفسه لا قابلية له على جذب الآخرين من مسلمين وغيرهم.

بل إن اعتقادات الغلوّ هذه تجعل حتى أبناء المذهب يشككون في أحقيته بسبب ما يرونه من غلوّ واضح وسكوت عنه، وخاصة إذا حاولوا رؤية أدلة كونية مرصودة لما يُدّعى من ولايات تكوينية، وبالطبع سوف لن يجدوا شيئاً، فأدلة علوم الدين والطبيعة واضحة على وجود صانع حكيم واحد هو الله سبحانه وتعالى، ولا مدبِّر ولا خالق ولا رازق غيره. وبالتالي سيعتبرون تلك الأقوال المخالفة للواقع إهانة لعقولهم وأن هذا المذهب مليء بالخرافات. وهذه النتيجة مؤسفة لأن الغلاة قد قلبوا واقع المذهب الحق رأساً على عقب.

5) إن الغلوّ يكشف عن عدم التدبر في غرض الرسالة المحمدية، لأن الله تعالى إنما بعث نبيه الكريم صلى الله عليه وآله للناس كافة لأجل هدايتهم إلى دين الإسلام، ولو كان المذهب الحق الذي يمثل الإسلام منغلقاً أو حدث فيه ما يخالف الفطرة فسوف لا تؤدّي الرسالة الإسلامية غرضها في هداية البشرية، وسيُترك فراغ في الساحة يملأه غيره من الملحدين والنصارى والوهابية. وما دمنا نعتقد أن الدين خالد إلى يوم القيامة وصالح لكل زمان ومكان وأن مذهب الشيعة الإثني عشرية هو الذي يمثل دين الإسلام فلا بدّ أن يكون المذهب المعروض اليوم مناسباً للعصر بحيث يمتلك أدوات الجذب والقابلية على استقطاب بقية البشر. أما مذهب الغلوّ فلا يمكنه أن يتكفل بهذه المهمة.

6) إن منهج الغلوّ يجعل مذهب التشيع في معرض المقاومة ومحاولة الاستئصال من قبل مناوئيه بصورة أكبر مما لو لم يكن الغلوّ موجوداً. كما يجعل المنتمين له عرضة للقتل ومقاساة ألوان العذاب كما حصل في زماننا من مجازر ومآسي أخرى تعرّض لها الشيعة من قبل المتطرفين الإرهابيين بسبب اتهام الشيعة بالشرك، خاصة في العراق وافغانستان. ولا يقولَنّ قائل بأنهم يعتقدون بشركنا على كل حال، لأن هذا صحيح فقط بالنسبة لبعضهم وليس كلهم، فإن بعضهم ليسوا على رسوخ بهذه العقيدة، وقد رسخها ما لاحظوه من مظاهر شركية كثيرة - كما يعتقدون - لدى الشيعة وسكوت المجتمع الشيعي عنها.

إن ما نحتاجه اليوم هو ترسيخُ عقائد الإسلام الحقة أمام الهجمات المتوالية والأفكار الحديثة التي تشكك بكل شيء، وتثبيتُ الأخلاق الفاضلة في أوساط مجتمعنا. فهناك إلحادٌ يغزو وحداثةٌ تحاول تمييع الدين وطعنٌ وتشكيكٌ بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وبالقرآن الكريم وبإمامة الأئمة الإثني عشر سلام الله عليهم وانحرافات أخلاقية في المجتمع. واللازم تحصين الجميع وخاصة الشباب وتهيئة جيل عقائدي مُحَصّن بمفاهيم الإسلام الحقة الراقية بدل أوهام الغلاة ومبالغاتهم التي لا نجني من وراءها إلا الضرر، والتي تجعل المجتمع الشيعي منشغلاً بين مدافع عنها ورادٍ عليها وحيران لا يعرف الموقف منها. وهذا تعطيل لقدرات المجتمع وإشغال له عن الأمور المهمة والمصيرية التي يحتاجها.

7) إذا ترسخت عقيدة الغلوّ بأهل البيت صلوات الله عليهم تبعاً للأهواء فإن هذا يفتح الباب للغلوّ في غيرهم كبعض مدّعي العلم ومحبي الرئاسة، وسيستهل الناس الغلوّ بمن يحبونه ويعتقدون تميزه عليهم. بل إن البعض نظّر لهذا فقال إن غير المعصوم يمكن أن تكون له ولاية تكوينية. وليس بالضرورة أن يوصلوه إلى درجة الربوبية أو الألوهية، بل إن رفعه عن منزلته بغير حجة إلى منزلة أعلى من مقامه هو غلوّ أيضاً كما مرّ في تعريف السيد السيستاني للغلوّ.

والمجتمع الذي ينتشر فيه الغلوّ يسود فيه الجهل عادة وتنتشر البدع، وما أكثرها في مجتمعنا. وهو مستعد لتقبل الأفكار التي لا دليل من العقل عليها لأنه قد عطّل عقله بتقبل المتناقضات والأمور الكبرى بلا دليل. وبهذا يسهل تقبله لأفكار الإلحاد وغيرها. وترى القوم يتقبلون الأفكار التي يستدل أصحابها بما يسمى بالكشوفات العرفانية والرؤى وغيرها من الادعاءات والأهواء التي لا يمكن اثباتها بدليل مُعذِر أو التي هي أضعف من أن تُطرح في المجامع العلمية.

وهذا ما حدث فعلاً في مجتمعنا من ظهور عدد ليس بالقليل من أهل البدع والفرق الضالّة فيما سبق وحالياً كالذين ادعوا الإمامة أو ادعوا ما يسمى بالعصمة الثانوية لزعيمهم وغلوا فيه إلى درجات مؤسفة لأنهم ينتمون لوسط يستسهل الغلوّ. وهذا مصداق لقول السيد السيستاني عن نتائج الغلوّ: (وطمع الجاهلين، وترؤّس أهل الضلالة).

8) إن السماح للظن في معرفة العقيدة كما هو واقع فعلاً كقبول أخبار الآحاد والدلالة الظنية من الآيات والروايات سيؤدي إلى تغيير العقيدة باستحداث أفكار جديدة. كما يسمح هذا المنهج بدَسِّ روايات تقلل من شأن المذهب، خاصة ما يتعلق بالغلوّ كما أشارت رواية ابن أبي محمود عن الرضا سلام الله عليه التي ذكرناها تحت عنوان "الروايات النافية للغلو" في هذا الفصل، لأن الغلاة لا يحققون في المتن والسند فيما يتعلق بمقامات ومعاجز أهل البيت صلوات الله عليهم ويكتفون بالظن أو ما هو أدنى منه، ولا علاقة لهم بموافقة القرآن الكريم في دعاويهم. وسيكون من السهولة أن تتسلل الأفكار الغريبة والمدسوسة ما دام الظن مقبولاً في العقيدة.

ونتيجة لتراكم النتائج المترتبة على هذا المنهج الظني فقد أصبح الواقع العقائدي الشيعي عند العديد من الناس يتقبل التناقضات بسهولة ويجد لها التبريرات غير المقنعة.

إن الإيغال في مسائل المقامات وتفصيلات أخرى كعوالم الأنوار والأشباح والأظلة وتفسيرات النقطة (التي تحت باء البسملة) لا يعدو أن يكون ظناً بدليل الاختلاف في فهمها بين الأعلام وفي معرفة تفاصيلها، وسوف يؤدي تضخيم هذه الأمور وحشرها في الدين إلى حرف بوصلة الدين، لأنها ليست من الدين الذي يسألنا الله عنه، ولا يوجد دليل يقيني عليها، وقد جعلها بعضهم من أهم أمور الدين.

9) إن المجتمع المغالي ليس مجتمعاً موحداً ولا قوياً، لأن الناس ينقسمون فيه إلى مذاهب فكرية مختلفة تتخاصم فيما بينها مما يؤدي إلى تزعزعه. وهذا يفتح أبواباً لمن يريد أن يتسلل إلى المذهب وينقض عُراه مستغلاً هذا الخصام، فيتلبس أحياناً بلباس هؤلاء وأحياناً بلباس أولئك، وينطق بكلمات كل منهم ليزيد الشقاق والانقسام الداخلي. وإذا داهمهم عدو خارجي فهم ضعفاء أصلاً وليس من السهولة أن يتّحدوا ولا أن يصمدوا. بينما لو كانوا أمة وسطاً بلا إفراط ولا تفريط ومنسجمين مع فطرة التوحيد التي فطرهم الله عليها وبما يريده منهم الإسلام فلن يتيسر للعدو النيل منهم.

10) أكد القرآن الكريم على ضرورة التأسي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وبقية الأنبياء سلام الله عليهم كما في قول الله عزّ وجلّ: ﴿لَقَد كانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كانَ يَرجُو اللهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً﴾ [سورة الأحزاب: 21] وقوله سبحانه: ﴿أُولٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقتَدِه﴾ [سورة الأنعام: 90]. ويحصل التأسي فيما إذا كان ممكناً، بأن يكون من يُقتدَى به ذا صفات بشرية يمكن الوصول لها أو لجزء منها. أما إذا كان كاملاً يقدر أن يفعل ما يشاء ولا يخفى عليه شيء فإنه يكون إلٰهاً بنظر الناس ولا يمكن حينئذ أن يحاولوا الترقي لدرجة الألوهية. ويؤيد هذا ما نقلناه سابقاً عن الحسين بن روح عن الإمام الحجة سلام الله عليه: {ولو جعلهم الله عزّ وجلّ في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين ولم يبتلهم ولم يمتحنهم لاتخذهم الناس آلهة من دون الله عزّ وجلّ ولمَا عُرِف فضل صبرهم على البلاء والمحن والاختبار}[11].

ولو تنزّلنا عن القول بإلٰهيته فإنه سيكون كائناً مثالياً لا يمكن الوصول لأي من قدراته فوق البشرية. وبذلك لن يمكن الاقتداء به والطلب من الناس أن يكونوا مثله في صفاتهم ومواقفهم رغم أن ضرورة التأسي بأهل البيت صلوات الله عليهم من الأمور الراسخة في المذهب، أي سيكون تكليف الناس بالتأسي تكليفاً بغير المستطاع، قال تعالى: ﴿وَلا نُكَلِّفُ نَفساً إِلا وُسعَها﴾ [سورة المؤمنون: 62].

وللتوضيح أكثر ننقل النص التالي: (إن من بين أهم التَّبِعات السلبية المترتِّبة على الأفكار الغالية، التي ترفع الأئمة ـ دون وَرَعٍ ـ في جميع الدرجات التي هي دون مفهوم "الله"، أنها تسلب إمكانية التأسّي والاقتداء بهم. إن الإمام الواجد لجميع درجات العلم والقدرة وما إلى ذلك لن يكون سوى الله، ولا يمكنه أن يلعب دور الأسوة بالنسبة إلى الإنسان الضعيف. ولن يعود بعد ذلك أيّ أهمّية لإيثاره وتضحيته في ليلة المبيت، وبطولاته في سوح الوغى والجهاد؛ لعلمه المسبق أن هذه المعارك لن تصيبه بسوءٍ، أو تعرِّض حياته للخطر. في حين إنني بوصفي من البشر الذين لا يمتلكون مثل هذا العلم ينتابني الخوف واليأس والطمع، أما الإمام الذي يمتلك القدرة على فعل كلّ شيء، ويمكنه التصرّف في عالم الخلق، وبيده مقاليد جميع الأمور، لا يمكن أن تنتابه هذه الهواجس والرغبات الطاغية. فإذا سلك طريق الصبر أو الزهد أو القناعة لن تحظى هذه القناعة بتلك الأهمّية! إن الشجاعة أو الإيثار أو القناعة التي يبديها مثل هذا الشخص ليست بالشيء الذي يُسجَّل له بوصفه فضيلة؛ لأنه لا يكون في مثل هذه الحالة رازحاً تحت وطأة الضغوط التي يعاني منها الإنسان العادي بمقتضى طبيعته، فهو يمتلك كلّ شيء، وبيده مقاليد جميع الأمور، ويستطيع تسخير الكون والتصرُّف فيه بجميع أنواع التصرُّف، غاية ما هنالك أنه ليس هو الله، ولكنه يمتلك جميع صفات الإله! أجل، إن هذا هو ما يقتضيه التفسير الغالي والمطلق واللامحدود لعبارة {نزِّلونا عن الربوبية...}. وعليه فإن مثل هذا الشخص لا يمكن أن يكون قدوةً لمَنْ هو مثلي؛ لأنه لا يعاني ما أعانيه من الشعور والإحساس وأنواع القيود. صحيحٌ أنه يشاركني في عنوان الإنسان، ولكنه لا يعاني ما أعانيه من القيود والحدود. وحتّى لو صدق عليه عنوان ممكن الوجود، ولكنْ هناك بونٌ شاسع بين ممكن وممكن)[12].

وهنا لو حاول البعض أن يتحجج بأنّ عِلمَ الإمام سلام الله عليه بأنه سينجو ولا يتعرض للخطر لم يأتِ جزافاً وإنما أتى عن إيمان راسخ استحق به أن يكون عليماً بكل شيء وأن التأسي سيكون بإيمانه الذي يُنتج العجائب، فالجواب هو أن القول بالولاية التكوينية والعلم بكل شيء لم ينتج عن الإيمان الراسخ وفق دعاوى القوم، وإنما قد امتلكه أهل البيت صلوات الله عليهم منذ الأزل وقبل وجود التكاليف الإلهية، ويدّعي البعض قدمهم الزماني على تفصيل وخلاف في تفاصيل الأمر بعد حشر عالم الأنوار وما شابه في الموضوع. ويضاف لذلك أن أصل الادعاء لا دليل عليه، أي كيف ثبت أن مَن وصل إلى مرحلة عالية من الإيمان والتقوى سيكون عليماً بكل شيء وقادراً على كل شيء بعد نفي القرآن هكذا علم وقدرة فعلاً وقوة عن أشرف الخلق صلى الله عليه وآله.

11) إن حقيقة الغلوّ والتنظير له لو تأملته حق التأمل فإنه ناتج عن صغر عظمة الله تعالى في نفوس المغالين، فلو كانوا يعتقدون بعظمته سبحانه حق العظمة لما تجرّئوا أن يرفعوا عبيده إلى مراتب تداني مرتبته سبحانه بحيث لا فرق بينهم وبينه إلا أنهم عباده. لكن الحقيقة التي قام عليها الإسلام هي أنه لا توجد مرتبة أصلاً تداني مرتبته جلّ وعلا، وهو الذي لا إله إلا هو الواحد الأحد ربّ كل شيء ومالك كل شيء وليس كمثله شيء، ومَن دونَه لا شيء في الحقيقة أمامه سبحانه، فعبيده جميعاً (الأنبياء والأئمة والملائكة ومَن دونَهم) مُحْدَثون وفانون وفقراء من كل جهة، وهو الغني من كل جهة.

ومن يطّلع على عظمة الكون المادي بمجراته والعناقيد المجرية العظيمة التي تضم المجرات وتاريخ الكون وصولاً إلى تفاصيل اللحظات الأولى للانفجار العظيم (النظرية العلمية الأقوى حالياً لتفسير نشوء الكون)، ثم ينتقل إلى أصغر شيء وهو الجسيمات الأولية وعجيب خِلقَتها، وكيف أبدع الخالق بوضع زوجية المادة والطاقة وكذا القوانين المحكمة المتناسقة التي تنظم هذا الكون الكاشفة عن اتقان صنعه سبحانه، ثم يتأمّل في نفس الإنسان التي أودع الله فيها قدرات هائلة اكتشف بها هذا الكون الكبير، لَتَبيّن له عظمة الله سبحانه وبديع صنعه. وسيكون مصداقاً لما ورد عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه في خطبته في وصف المتقين: {عَظُمَ الخالِقُ في أنفُسِهِم فصَغرَ ما دُونَه في أعيُنِهم}. لكن الغلاة قد عَظُمَ ما دون الله في أعينهم فاستصغروا الخالق في أنفسهم لأنهم لم يعرفوا الله حق معرفته و ﴿ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾. ومن تدبّر في محكمات وكليات الكتاب والسنة وجَعَلها حاكمة على ما دونها لاتّضح له الأمر. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابتِغاءَ الفِتنَةِ وَابتِغاءَ تَأوِيلِهِ وَما يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي العِلمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِندِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلبابِ﴾ [سورة آل عمران: 7].

12) إن استدلال الغلاة بالروايات بغض النظر عن صحتها وضعفها وبلا عرض على الكتاب الكريم يؤسس لمنهج يشجع عامة الناس على الاستدلال بالروايات مباشرة، وهذا ما وقع فعلاً، وهو يؤدي لانحراف واضح عن مقاصد الدين الصحيحة، لأن عامة الناس لا يفقهون كيفية استنباط المعارف من الروايات لأسباب كثيرة: منها عدم تضلعهم بلغة العرب وكيفية التعامل مع الروايات بعرضها على القرآن المجيد ومعرفة مدى اعتبارها متناً وسنداً وغير هذا. والنتيجة هي التشتت والانحراف في الدين والابتعاد عن العلماء لأن الناس سيظنون أنهم قادرون على فهم الدين من الروايات التي يعرضها عليهم الخطباء.

13) كما بيّنا سابقاً فإن نسبة الغلوّ إلى كلام أهل البيت صلوات الله عليهم يتناقض مع ما وضعوا فيه أنفسهم من عبودية لله تعالى وما وضّحوه عن قدراتهم المحدودة بأحاديث كثيرة، نقطع بصدور مضمونها عنهم بسبب كثرتها وموافقتها للقرآن المجيد وللفطرة السليمة، بخلاف الأحاديث الغريبة القليلة التي تنافي هذا. لذا فإن نسبة أفكار الغلو لكلامهم صلوات الله عليهم وأنهم يقولون بامتلاكهم للولايات الشاملة ويعلمون كل شيء ويقدرون على كل شيء يجعلهم متناقضين وغير معصومين. وبما أن العصمة ثبتت بدليل قطعي فلا بدّ أن تُقدّم على روايات الغلوّ لأنها تناقض العصمة بسبب مخالفتها لما ثبت قطعاً من كلامهم صلوات الله عليهم النافي لهكذا غلوّ.

قال الإمام الرضا سلام الله عليه في رواية ذكرناها سابقاً: {فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن، فإنا إنْ تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة، إنا عن الله وعن رسوله نحدث، ولا نقول قال فلان وفلان، فيتناقض كلامنا. إن كلام آخرنا مثل كلام أولنا، وكلام أولنا مصادق لكلام آخرنا. فإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك فرُدّوه عليه وقولوا أنت أعلم وما جئت به}[13]. فيا تُرى هل ردّ القوم الأحاديث التي تخالف القرآن فيما يتعلق بالصفات الربّانية التي أعطوها لأهل البيت صلوات الله عليهم؟

14) ما هو الحال إذا استمر الغلوّ بالوتيرة السائدة مع السكوت عنه؟ الجواب هو:

أ‌- نتوقع أنه لن يستمر على هذا المستوى لأنه يزداد بصورة مستمرة كما شهدنا خلال السنين الأخيرة، (ومن زاد اليوم شيئاً بغير حجّة زيد عليه غداً حتّى أنّه ليُتّهم بالتقصير والقصور) كما قال السيد السيستاني. ولا نستبعد أن يأتي يوم ليس ببعيد يصل فيه الغلوّ إلى الشرك الجلي ويَبرز بعض أهل الضلالة لتبريره بنفس أساليبهم التي تبرر الغلوّ والشرك الموجود حالياً. بل توجد الآن بعض التسجيلات - على موقع "يوتيوب" - لشرك جلي في مجالس عامة، بل ما هو أسوء منه، أي تنقيص صريح لعظمة الله تعالى مقابل تعظيم أحد الأئمة سلام الله عليهم كما نقلناه في هذا البحث عمّن ينتقص من بلاغة القرآن الكريم مقابل تعظيم بلاغة أمير المؤمنين سلام الله عليه، وكمن يقول من الخطباء أنه ليس من حق الله أن يفعل شيئاً إلا بإذن الإمام صاحب الزمان سلام الله عليه وغير هذا مما تقشعر له أبدان المتقين. ولا يقتصر الأمر على مجرد كلمات شركية، بل تبيّن مؤخراً توسّعُ اعتقاد الغلوّ في الذات عند بعض الناس في أكثر من مكان، وأعني بالضبط الغلوّ في أمير المؤمنين سلام الله عليه وادعاء ألوهيته. وهذا يمثل نتيجة طبيعية لما وصل إليه الغلوّ في الصفات والغفلة عنه لأن الغلوّ لا يقف عند حد.

ب‌- ما دام أهل الحق ساكتين والساحة متروكة للغلاة بمختلف مدارسهم ومستوياتهم المغالية فإن النتيجة هي تحريف الدين وتراجع مذهب أهل البيت صلوات الله عليهم إلا بحبل من الله سبحانه.

ج‌- تحوُّل مذهب التشيع المعروف باعتداله ووسطيته وقوة حجته إلى مذهب متطرف يُقمع فيه حتى أبناؤه إذا خالفوا رأي الغلاة كما نشهد اليوم من خوف المتورّعين العاملين بالحجّة من الجهر بتخطئة الغلاة خشية اتهامهم بوجود خلل في ولائهم لأهل البيت صلوات الله عليهم، لأن الغلاة صوّروا للناس أن مذهب التشيع ليس إلا ما يقولونه كما مرّ حين أجاب أحدهم بأن منكر الولاية التكوينيّة للمعصومين صلوات الله عليهم منكر للضروريّ، وهو بهذا فتح الباب للطعن بعدالة من يخالفه في هذا، بل ولإخراجه من المذهب.

د‌- سوف يرى الناس المعروف منكراً والمنكر معروفاً، لأن أهل الحق ساكتون، ولأن الغلاة يزينون للناس غلوّهم بأنه ليس غلوّاً، وإنما هو عين المذهب والدين وفي سبيل ولاية أهل البيت صلوات الله عليهم وبيان مقاماتهم. وهذا مصداق للمرتبة الأخيرة التي بينها الحديث الشريف عَن الصادق سلام الله عليه: {قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله كَيفَ بِكُم إِذا فَسَدَت نِساؤُكُم وفَسَقَ شَبابُكُم ولَم تَأمُرُوا بِالمَعرُوفِ ولَم تَنهَوا عَنِ المُنكَرِ. فَقِيلَ لَه: ويَكُونُ ذَلِكَ يا رَسُولَ الله؟ فَقالَ نَعَم وشَرٌّ مِن ذَلِكَ. كَيفَ بِكُم إِذا أَمَرتُم بِالمُنكَرِ ونَهَيتُم عَنِ المَعرُوفِ. فَقِيلَ لَه: يا رَسُولَ الله ويَكُونُ ذَلِكَ؟ قالَ نَعَم وشَرٌّ مِن ذَلِكَ. كَيفَ بِكُم إِذا رَأَيتُمُ المَعرُوفَ مُنكَراً والمُنكَرَ مَعرُوفاً}[14].


[1]) نهج البلاغة، الخطبة رقم 50.

[2]) بعد كتابتي لهذه الكلمات شاهدت تسجيلاً مرئياً لأحد الغلاة ممن يتأثر به البعض ويحتج مناوئو التشيع بكلماته ضدنا، وهو يصرح مستعملاً مصطلحات النصارى، فقال بأن عقيدتنا هي أن علياً سلام الله عليه يملك الكون وهو خالق الكون وأنه لاهوتي بهيئة ناسوت. ومعنى كلامه هذا أنه سلام الله عليه إلٰه بهيئة إنسان، نستجير بالله تعالى من هكذا خذلان وسلب توفيق.

[3]) هو حسين ابن السيد صادق الشيرازي في محاضرة له عن عظمة أمير المؤمنين سلام الله عليه موجودة في موقع "يوتيوب".

[4]) إقبال الأعمال، ج 2، ص 242.

[5]) الكافي، ج 2، ص 602.

[6]) مقال بعنوان: ذو الحجة شهر علي عليه السلام ... على شبكة المعلومات "الانترنيت".

[7]) الأمالي للشيخ الصدوق، ص 446.

[8]) الأمالي للشيخ الصدوق، ص 572.

[9]) مشرعة بحار الأنوار، ج 1، ص 15.

[10]) الكافي، ج 2، ص 12.

[11]) كمال الدين وتمام النعمة، ص 537.

[12]) "نزِّلونا عن الربوبيّة... أمنع حصون الغلاة وتدليساتهم - القسم الثاني"، موقع "نصوص معاصرة".

[13]) اختيار معرفة الرجال، ج 2، ص 489.

[14]) الكافي، ج 5، ص 59.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=184019
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 07 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 13