في زحمة الامتحانات النهائية التي تشهدها جامعة البصرة في قاعات
كُلّياتها , كانت قاعة المسرح في كلية الفنون الجميلة ( ضحى الاربعاء
13- 6- 2012 ) تحتفي بمناقشة رسالةعلمية تتناول بالفحص والمعالجة
الظواهرالدرامية في نصوص الشاعرالراحل محمود البريكان , للباحث
ثامر محمد محمود العسّاف , الذي عنون رسالته هذه ب :
( الملامح الدرامية في شعر محمود البريكان ) مشيرا الى أنّ استخدامه
كلمة ( الملامح ) في بنية العنوان كان مُجاراة لاستخدام الشاعر إيّاها في
نصوصه وفي بعض آرائه المدونة , فضلا عن تداولها في الكثير من
العناوين في بعض الكتب والبحوث والمقالات اللسانية والأدبية والتاريخية
والفلسفية وغيرها .
وتأتي قيمة هذه الدراسة وأهميتها من تناولها – لأول مرة - العناصر
الدرامية وتوظيفها في بناء النصّ الشعري عند البريكان وهذا الجانب وإن
كان ثمّة التفاتة اليه عند بعض الباحثين إلا أنه لم يُدرس دراسة شاملة
من قبل كما ألمح الباحث , كما أن أهميتها تكمن كذلك في إمكانية توظيف
نصوص درامية في عروض مسرحية أو سينمائية , بل إنّ الباحث يرى
إمكانية عرض بعض تلك النصوص كمونودراما لما تتمتّع به من حضور
مكثّف ل ( الدراميمات ) المترابطة في بنائها .
وهذا التصوّر الذي تمسّك به الباحث جعله يؤكد أن قصدية التأليف الشعري
عند البريكان تتبنّى وضعيات ( درامية ) من نحو البناء الخارجي في المسرح
الأغريقي , أوبناء الصورة – الحركة .. في السينما , باعتبار هذه الوضعيات
أدوات تعبيرية وعناصر صياغية أساسية في بناء النص الشعري لدى الشاعر
كان هذا كله في المستوى الأجرائي للرسالة في فصلها الثالث ( الأخير) ,
أما المستوى التنظيري للرسالة فقد كان معنيّا ببيان بعض المفاهيم ولا سيما
كلمة ( الملامح ) التي استقصاها الباحث في عناوين 169 كتابا في مختلف
وجوه المعرفة دون أن يقف منها على تحديد لمصطلحها , وكان هذا وحده
مُسوغا له في معاينتها ومتابعتها دلاليا في معاجم اللغة العربية وكانت نتيجة
المعاينة ( وجود صلات غير متوقّعة من المعاني المهجورة والمتروكة بين
هذه الكلمة وفن الدراما ) بمعنى آخر : إمكانات الكلمة للارتباط والاشتراك
مع مفردات وعناصر مفهوم الدراما , ويرى الباحث أن التراث اللغوي في
العربية لم يغفل هذه الأمكانية كما في تعريف الجرجاني للتلميح الذي ينتمي
اشتقاقيا لمادة ( لمح ) في قوله : التلميح وهو أن يُشار في فحوى الكلام الى
قصّة أو شعر من غير أن تُذكر تصريحا . وقد كان هذا التعريف مقبولا لدى
الباحث في ضوء إجراءات بحثه , فهو يشير الى السياق التواصلي بين منتج
النص والمتلقي من جهة , والى ما يصاحب عملية الكتابة من تفريعات
لها وظيفتها التعبيرية في النص كما أنّ لها وظيفتها على مستوى بناء النص
من حيث تعالقها مع النص الأصلي بشكل الأشارة الى نص أدبي ( قصة أو
شعر ) وتوصل الباحث من هذا إلى أن اشارات التلميح الواردة في تعريف
الجرجاني هي ( الملامح ) التي تُزاح مجازا عن المعنى الحرفي وتتعالق
معه حقيقة . غير أنه يتساءل : اذا كان ذلك فكيف يصطلح على تداولها ؟
وكانت الأجابة بعد استقراء دلالي لها في معاجم اللغة , وقد أفضى ذلك
الاستقراءعنده الى تعريفات إجرائية وهى ( المشاهدة والأراءة و الملمح )
وهي المفاهيم الأجرائية التي اتخذها الباحث أداة يتعامل بها مع نصوص
الشاعرعلى مستوى الفعل الدراميّ .
ويمضي الباحث في مساحته التنظيرية متناولا كلمة ( الدراما ) التي
استنبط نظريتها الفيلسوف اليوناني أرسطو في كتابه ( فن الشعر ) في
ضوء المقولات المنطقية , مشيرا الى اهتمام أرسطو بالتراجيديا على
اعتبارها الصورة العليا للدراما حسب قول جيروم ستولنيتز, وقد تتبع
الباحث ترجمات كلمة التراجيديا الى العربية في جهود الفلاسفة العرب
والمفكرين والنقاد المعاصرين , فضلا عن ترجماتها المتعدّدة الى اللغة
الانكليزية , وقد اختار الباحث ثماني ترجمات لأهميتها بالرغم من مدى
الاختلاف الواسع في صياغة التعريف , هذا الاختلاف ألقى بظلاله على
الترجمات العربية كما يرى الباحث , مما أفضى بالتالي الى غموض
مصطلح الدراما , وقد صاغ الباحث في الأخير من كل تلك التعريفات
المتداخلة والصياغات المتشابكة مفهوما واضحا هو أنّ الدراما : ( نص
جماليّ يُحضر تجربة إنسانية متكاملة ومحدّدة , عبر شبكة أحداث منظمة
بحركة كلية مرتبة ببداية ووسط ونهاية , تؤديها شخصيات تتصارع إرادتها
المتكافئة أمام جمهور تُثار استجابته أثناء الأداء المباشر بتوتر وشدّ , ليتخلّص
من الانفعالات المُثارة عند انتهاء العمل .) وهذا المفهوم الذي تصوّره الباحث
للدراما إنما هو يخصّ بحثه كما ألمح متخذا إيّاه قاعدة لأجراءاته اللاحقة التي
كشفت أنّ للدراما بنية بمقارنتها ببنية اللغة عند سوسير وبعلم الصوتيات عند
جاكوبسن وبجهود ستروس التفسيرية .
والخلاصة التي أثمر عنها جهد الباحث في رسالته : أنّ شعر البريكان يغلب
عليه الطابع الدراميّ رغم تمفصله في خانة بعيدة عن الدراما تصنيفا , وأنّ
البريكان كان يمتلك إمكانية الكتابة الدراميّة رغم عزوفه عنها , وأنّ التصدّي
لمعالجة نصوصه في عروض مسرحيّة أو سينمائية مسألة ممكنة ومجدية
كتجربة إبداعية مثمرة .
وبين هذا وذاك , وبين قراءة الباحث لمقدمة بحثه وإعلان النتيجة التي
كان يرتقبها الجمهور , كانت المناقشة تنساب في فضاء من الملاحظات
العلمية الدقيقة , الممتعة في الوقت نفسه , ولعلّ علميتها متأتية من قيمة
الرسالة وجهدها المبذول في القراءة والاستقصاء ومحاولة التنظير الجادة
أمّا مُتعتها فلأنّ الموضوع في الشعر والدراما , وكانت اللجنة المناقشة
( من الدكتور باسم الأعسم رئيسا والدكتور فهد محسن فرحان والدكتور
محمد الجبوري عضوين والدكتورعبدالستارعبد ثابت البيضاني المشرف
على الرسالة ) قد استقرّ لديها أنّ الرسالة غنيّة بجهدها على المستوى
التنظيري والأجرائي , وأنّ ظهورها بشكل آخر ( في كتاب ) سيجعلها
أكثر فائدة , وبناءَ على ذلك كلّه فقد قررت اللجنة على لسان رئيسها
الدكتور باسم الأعسم : منح الباحث شهادة الماجستير في الأدب والنقد
المسرحيّ , بدرجة امتياز .... وهو ما توقّعه الجمهور الواقف أمام
خشبة المسرح ....
|