• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : بحوث ودراسات .
                    • الموضوع : ملاحظات تعمّ الولايات التكوينية الشاملة - ج1 .
                          • الكاتب : د . مظفر الشريفي .

ملاحظات تعمّ الولايات التكوينية الشاملة - ج1

بحث مُستل من كتاب (بل عبادٌ مكرمون- دراسة قرآنية وحديثية في نقد الغلوّ) لكاتب المقال

 

بسم الله الرحمن الرحيم

نعني بالولايات التكوينية الشاملة ما يشمل الولاية والسلطنة على كل الخَلق، وهي: الولاية التكوينية والتفويـض التكويني ووساطة الفيض. وقد ذكرنا سابقاً بعض الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة وأقوال علماء الطائفة التي تتنافى معها.

 

ما علاقة الدعاء بالولايات الشاملة؟

لعل أول ما ينفيها مما ورد عن أهل البيت صلوات الله عليهم هو قيامهم بالدعاء -كما أشرنا سابقاً - بغض النظر عن مضامين أدعيتهم، لأن من يمتلك القدرات المطلقة المزعومة في الولايات الشاملة لا يحتاج للدعاء، لأنه يستطيع أن يفعل ما يشاء مباشرة بلا دعاء، بل ولا يوجد معنى معقول لأن يتخوف من النار ويطلب الدخول في الجنة لأن الجنة والنار تحت سلطانه ويستطيع أن يتصرف بهما كيفما يشاء.

أما مضامين أدعيتهم ومجمل كلامهم صلوات الله عليهم فهو ينفي بشدة دعاوى الولايات الشاملة. ويظهر هذا لكل من تدبّر في كلامهم وفَهِم ما كانوا يقصدونه من التمحُّض في العبودية لله تعالى والاعتراف بالنقص والتقصير الفعلي أمامه سبحانه والخوف الحقيقي من غضبه جلّ شأنه ومن دخول النار. ويكفينا شاهداً على هذا الآياتُ المعروف نزولها في علي وفاطمة والحسن والحسين سلام الله عليهم: {إِنَّ الأَبرارَ يَشرَبُونَ مِن كأسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً * عَيناً يَشرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذرِ وَيَخافُونَ يَوماً كانَ شَرُّهُ مُستَطِيراً * وَيُطعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسكِيناً وَيَتِيماً وأسِيراً * إِنَّما نُطعِمُكُم لِوَجهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنكُم جَزاءً وَلا شُكُوراً * إِنّا نَخافُ مِن رَبِّنا يَوماً عَبُوساً قَمطَرِيراً * فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَومِ وَلَقّاهُم نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزاهُم بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [سورة الإنسان: 5-12].

ولو قيل بأنهم يدعون الله تعالى لأنهم يعرفون عظمته ويخشونه وهم عبيده في كل حال ويفتقرون إلى رحمته وعطاياه، قلنا:

أولاً: هذا صحيح، ولكن طلبهم منه سبحانه أي شيء لأنفسهم أو لغيرهم يصبح مفهوماً لو كانت ولايتهم محدودة، فيطلبون ما ليس تحت ولايتهم. ولكن شمولية سلطانهم وولايتهم بمقتضى القول بالولايات الشاملة تجعل الدعاء غير مفهوم، لأن الله تعالى قد أقدرهم على كل شيء حسب هذا الفرض. أي إن الإذن الإلهي موجود مسبقاً في أن تجري إرادتهم بما يشاؤون. فما الحاجة حينئذ للدعاء؟

وثانياً: إن ما يُدّعى لهم من تفويض وولاية تكوينية مطلقة لا يشوبها عجز هي بالنسبة لهم صلوات الله عليهم من حيث اليسر كالشرب والأكل أو أيسر، فهل يا ترى يسأل الناس ربهم أن يُشَرِّبهم الماء أو يُؤَكِّلهم حينما يتناولون قدح الماء أو لقمة الطعام؟

وثالثاً: إن لسان أدعيتهم صلوات الله عليهم يأبى أن يكون مجرد إظهار للعبودية بلا أثر لها، بل هو لسان فقر وذلة ومسكنة وخوف ورجاء وحاجة حقيقية لِغنى وعزة ورحمة وتوفيق من الله تعالى. وهذا يعني أنهم لا يمتلكون ما يُدّعى من ولايات شاملة. ففي دعاء الجوشن الكبير الذي يلهج به المؤمنون ليالي شهر رمضان المبارك: {يا مَن لا يَعلَمُ الغَيبَ إلا هوَ، يا مَن لا يَصرِفُ السّوءَ إلا هوَ، يا مَن لا يَخلُقُ الخَلقَ إلا هوَ، يا مَن لا يَغفِرُ الذَّنبَ إلا هوَ، يا مَن لا يُتِمُّ النِّعمَةَ إلا هوَ، يا مَن لا يُقَلِّبُ القُلوبَ إلا هوَ، يا مَن لا يُدَبِّرُ الأمرَ إلا هوَ، يا مَن لا يُنَزِّلُ الغَيثَ إلا هوَ، يا مَن لا يَبسُطُ الرِّزقَ إلا هوَ، يا مَن لا يُحيِى المَوتى إلا هوَ}، حيث يُلاحَظ أسلوب الحصر باستعمال أداتي النفي والاستثناء، أي إن هذه الأمور المذكورة لا يفعلها إلا الله تعالى. ولو قيل بأن المقصود بالدعاء أن من يخلق الخلق وغير هذا من فقرات هذا الدعاء هو الله ذاتاً ولا مانع أن يخلق غيره شيئاً بتفويض منه سبحانه، قلنا لا مانع لو كان هذا التخليق محدوداً وناقصاً كما في خلق عيسى سلام الله عليه للطير لأنه ليس خلقاً كاملاً من قبل المعصوم، ويمكن القول حينئذ بأن الخالق الحقيقي هو الله عزّ وجلّ. أما لو كان التخليق من قبل المعصوم سلام الله عليه مطلقاً غير محدود - قوة أو فعلاً - فلا يبقى معنى واضح لهذا الدعاء المتضمن أسلوب الحصر، وسيكون حال الدعاء كالتالي: (يا مَن لا يَخلُقُ الخَلقَ إلا هوَ ذاتاً وغيره اكتساباً)، وهذا يُفقد الدعاء معناه المرجو، لأن غير الله أصبح يملك نفس قدرته سبحانه، وسيمتلك صفات إلهية وليست ربوبية فقط، واستحق أن يتوجه له الخلائق بالدعاء فيقولون: (يا مَن لا يَخلُقُ الخَلقَ إلا الله وأنت)، وحينما يأتي الشُرّاح الغلاة سيقولون إن الخالق بالأصل هو الله سبحانه وغيره بالإفاضة والاكتساب. وسيبقى العِباد حيارى ولا يعرفون هل هناك إلٰه واحد أم أكثر، لأنهم يرون نفس العلم والقدرة لله تعالى ولغيره.

 

من هو الإله ومن هو الرب وفق القول بالولايات الشاملة؟

بناءً على ما تقدم فإن الرب الحقيقي وفق الولايات التكوينية الشاملة ولوازمها سيكون هو المعصوم سلام الله عليه لأنه المباشر لكل شيء يَصِل إلى الخلق، أما الله سبحانه فقد سلّط المعصومين على كل شيء فيمارسون الربوبية على باقي الخلائق. أي سوف لا يتبين من هو الإٰله بالضبط لأنهم يرون نفس العلم والقدرة لله تعالى ولغيره كما أسلفنا، ولكن الربوبية واضحة أنها لهؤلاء المفوّضين بكل شيء لأنهم المدبِّرون لأمرنا ولأننا صنائع لهم كما يفهم البعض. فكلمة "الرب" كما ذكر الشيخ الطوسي: (وقوله {رب العالمين} أي المالك لتدبيرهم، والمالك للشيء يسمى ربّه.)[1]، وقال السيد الطباطبائي: (هو تعالى رب كل شيء المتوحد بالربوبية. إذ لا نعني بالرب إلا المالك للشيء المدبر لأمره)[2].

ولا يغير النتيجة أن يقول البعض بأن هذا التفويض سوف لا يستغله المعصوم سلام الله عليه دائماً، لأن واقع الحال المزعوم أنه يمتلك أزمّة أمور الكون كلها، أي إنه قادر على كل شيء. بل لا يمكن لهم أن يقولوا بهذا الاحتمال إذا كانوا من القائلين بمقولة الصادر الأول المتفرعة على مقولة "الواحد لا يصدر منه إلا واحد" لأن الخالق الفعلي وفقها هو الصادر الأول وليس الله تعالى، وكذا إذا كانوا ممن يُعرِّف واسطة الفيض وفق ما نقلناه سابقاً في موضوع "وساطة الفيض" بأنه (الموجود الذي لا يصل الفيض إلى بقية الموجودات الإمكانية إلا بواسطته) الذي يعني أن المباشر الفعلي الدائم لكل شيء هو المعصوم سلام الله عليه.

ولكي نقتنع بأقوالهم يجب أن نُعرِض عن القرآن العظيم ونترك الكثير من الآيات الكريمة التي لا تنسجم مع هوى هؤلاء القوم أو نؤولها أو نحمِّلها ما لا تتحمل كالآيات السابقة الذكر وكقوله تعالى: {لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [سورة الشورى: 11] ... قال سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهواءَهُم لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالأَرضُ وَمَن فِيهِنَّ بَل أَتَيناهُم بِذِكرِهِم فَهُم عَن ذِكرِهِم مُعرِضُونَ} [سورة المؤمنون: 71].

إن القول بالولايات الشاملة يؤدي إلى عدم تمامية الحجة لله على خلقه بأنه واحد لا شريك له، لأن الإنس والجن سيعتقدون حسب هذا الادعاء بأن إمام زمانهم بيده الخلق والرزق وله الولاية على كل شيء في الكون، وهو بهذا سيستحق العبادة بنظرهم لأن حياتهم ومماتهم ورزقهم بيده، وكذلك دعاؤهم يصح أن يتوجه له مباشرة كي يقضي حوائجهم. لذا كيف سيؤمنون بأنه عبدٌ لإله أعلى منه شأناً وأن هذا الإله العالي هو من يملك كل شيء؟ أي إن العِباد سيَرَون قدرتين مطلقتين إحداهما لله تعالى[3] والأخرى لإمام زمانهم. وحينئذ كيف سيُفرِّقون بين هاتين القدرتين المطلقتين وتمييز الأقدر منهما؟ وحتى لو تمكنوا من التمييز وأمكن إقناعهم بأن قدرة الإمام المطلقة هي مستمدة من القدرة الإلهية فإنَّ هذا لا يكفي لجعل التوحيد خالصاً، لأن استحقاق العبادة لذي القدرة المطلقة لا يُزال من أذهان الناس بمجرد الاعتقاد بوجود من هو أقدر منه، بل ستكون فكرة تعدد الآلهة التي يتسلط بعضها على بعض فكرة قريبة جداً كما هو واقع فعلاً في تاريخ البشرية.

ومشركو مكة كانوا يؤمنون بالله تعالى وبتدبيره للأمر وبأن آلهتهم ليست هي الخالقة والرازقة، ولم يقبل الله منهم هذا الإيمان، قال تعالى: {قُل مَنْ يَرزُقُكُم مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ أَمَّن يَملِكُ السَّمعَ وَالأَبصارَ وَمَنْ يُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُل أَفَلا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَماذا بَعدَ الحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصرَفُونَ} [سورة يونس ع: 31-32]. لذا فمجرد الاعتقاد بأن الله هو واجب الوجود وغيره ممكن الوجود لا يكفي للوصول للتوحيد الخالص.

ولا يكفي لحل هذا الإشكال أن يُلحقوا كلمة "بإذن الله" بعد إعطاء الصفات الإلهية والربوبية لأهل البيت صلوات الله عليهم، لأنه لا دليل على قولهم هذا يوجب العلم بأحقّيته كما أسلفنا، بل الدليل القرآني قائم على خلافه. أي إن القرآن ينفي وجود هكذا قدرات لأحد مطلقاً - بإذن الله سبحانه أو بغير إذنه - ولأن الأثر الشركي الذي سيترتب على هذا في أذهان عموم الناس لا ترفعه هذه الكلمة، لأن هكذا كائن خارق لقوانين الطبيعة بقدرته على خلق كل شيء ورزق كل المخلوقات وتحريك المجرات وإفنائها وغير هذا من القدرة على التصرف في كل ما دون الله تعالى سيستحق العبادة عقلاً ولا يمكن اقناع الناس بأنه عبدٌ لا يملك لنفسه حولاً ولا قوة، لأنه - فعلاً- رب لكل الخلائق وله كل الحول والقوة كما أسلفنا حسب زعمهم. وهذا يُنتج تناقضاً في نظر العِباد، وسوف لن تتم الحجة لله عليهم حينئذ بخلاف قوله تعالى: {قُل فَلِلّٰهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ} [سورة الأنعام: 149].

ولا بدّ من التنبه إلى أن الله تعالى هو أعرف بطبيعة خلقه وبميلهم للغلو في مَن له قدرات استثنائية كالأبطال في الحروب والعباد الصالحين الذين لهم كرامات - كما يتبين بالاطلاع على تواريخ الأمم السالفة والمعاصرة - فيجعلونهم آلهة مع الله تعالى أو آلهة أقل مرتبة منه سبحانه أو يُشركون بعبادتهم كما ورد في تفسير قول الله تعالى: {وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُم وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح ع: 23]، حيث ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: (قال البعض: إنها أسماء خمسة من الصالحين كانوا قبل نوح عليه السلام وعندما رحلوا من الدنيا اتخذوا لهم تماثيل لتبقى ذكرى، وذلك بتحريك وإيحاء من إبليس، فوقّروها حتى عُبدت تدريجياً بمرّ العصور)[4]. بل إن عقلية تجسد الإلٰه مستحكمة عند البشر في مختلف الأزمنة كما في قول الله تعالى في قصة السامري: {فَأَخرَجَ لَهُم عِجلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذا إِلهُكُم وإلهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلا يَرَونَ أَلا يَرجِعُ إِلَيهِم قَولاً وَلا يَملِكُ لَهُم ضَرّاً وَلا نَفعاً * وَلَقَد قالَ لَهُم هارُونُ مِن قَبلُ يا قَومِ إِنَّما فُتِنتُم بِهِ وإنَّ رَبَّكُمُ الرَّحمٰنُ فاتَّبِعُونِي وأطِيعُوا أَمرِي * قالُوا لَن نَبرَحَ عَلَيهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرجِعَ إِلَينا مُوسَى} [سورة طه: 88-91]، وكما في تأليه عيسى سلام الله عليه لِما صدر منه من أفعال خارقة كإحياء الموتى وخلق الطير وغيرها، وفي تأليه أمير المؤمنين سلام الله عليه، وفي تأليه الكثير من القادة والأبطال وأهل الأديان الوضعية، قال سبحانه: {وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيرٌ ابنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارَى المَسِيحُ ابنُ اللهِ ذَلِكَ قَولُهُم بِأَفواهِهِم يُضاهِئُونَ قَولَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحبارَهُم وَرُهبانَهُم أَرباباً مِن دُونِ اللهِ والمَسِيحَ ابنَ مَريَمَ وَما أُمِرُوا إِلا لِيَعبُدُوا إِلٰهاً واحِداً لا إِلٰهَ إِلا هُوَ سُبحانَهُ عَمّا يُشرِكُونَ} [سورة التوبة: 30-31].

ويمكن القول بأن من أسباب ادعاء الألوهية من قبل الكثير على مرِّ العصور هو أنهم وجدوا من يذعن لهم بسبب سهولة اتخاذ آلهة غير الله سبحانه عند الكثير من الناس، قال تعالى: {وَقالَ فِرعَونُ يا أَيُّها المَلَأُ ما عَلِمتُ لَكُم مِن إِلٰهٍ غَيرِي} [سورة القصص: 38]، وقال جلّ وعلا: {أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِي حاجَّ إِبراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ المُلكَ إِذْ قالَ إِبراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأتِي بِالشَّمسِ مِنَ المَشرِقِ فَأتِ بِها مِنَ المَغرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهدِي القَومَ الظّالِمِينَ} [سورة البقرة: 258]، وقال سبحانه: {إِنَّما المَسِيحُ عِيسَى ابنُ مَريَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلقاها إِلَى مَريَمَ وَرُوحٌ مِنهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيراً لَكُم إِنَّما اللَّهُ إِلَهٌ واحِدٌ سُبحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [سورة النساء: 171].

وبملاحظة هذا كله حقّ لنا أن نسأل كيف ستتم الحجة لله على خلقه وهم بهكذا طبيعة تستسهل الغلوّ؟ وهو قد أعانهم عليه بأن جعل بعض عِباده ذوي قدرات خارقة فوق ما يتعقل البشر بأن جعلهم قادرين على كل شيء كما يقول مدّعو الولايات الشاملة، وكيف سينطبق قوله تعالى: {قُل فَلِلّٰهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ} حينئذ؟ ألا يعلم سبحانه بأن أبواب التوحيد ستضيق عليهم وسيشركون به؟ ألم يقل سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفساً إِلا وُسعَها} [سورة البقرة: 286]؟

ويؤيِّد ما ذكرناه ما رواه الشيخ الصدوق: (حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رضي الله عنه قال: كنت عند الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح قدس الله روحه مع جماعة فيهم علي بن عيسى القصري فقام إليه رجل فقال له: إني أريد أن أسألك عن شيء، فقال له: سل عما بدا لك، فقال الرجل، أخبرني عن الحسين بن علي عليهما السلام أهو ولي الله؟ قال: نعم، قال: أخبرني، عن قاتله أهو عدو الله؟ قال: نعم، قال الرجل: فهل يجوز أن يسلط الله عزّ وجلّ عدوه على وليه؟ فقال له أبو القاسم الحسين بن روح قدس الله روحه: إفهم عني ما أقول لك، إعلم أن الله عزّ وجلّ لا يخاطب الناس بمشاهدة العيان ولا يشافههم بالكلام، ولكنه جلّ جلاله يبعث إليهم رسلاً من أجناسهم وأصنافهم بشراً مثلهم، ولو بعث إليهم رسلاً من غير صنفهم وصورهم لنفروا عنهم ولم يقبلوا منهم، فلما جاؤوهم وكانوا من جنسهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق قالوا لهم: أنتم بشر مثلنا ولا نقبل منكم حتى تأتوننا بشيء نعجز أن نأتي بمثله، فنعلم أنكم مخصوصون دوننا بما لا نقدر عليه. فجعل الله عزّ وجلّ لهم المعجزات التي يعجز الخلق عنها، فمنهم من جاء بالطوفان بعد الانذار والاعذار، فغرق جميع من طغى وتمرد، ومنهم من ألقي في النار فكانت برداً وسلاماً، ومنهم من أَخرج من الحجر الصلد ناقة وأجرى من ضرعها لبناً، ومنهم من فلق له البحر، وفجر له من الحجر العيون، وجعل له العصا اليابسة ثعباناً تلقف ما يأفكون، ومنهم من أبرا الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله، وأنبأهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، ومنهم من انشق له القمر، وكلمته البهائم مثل البعير والذئب وغير ذلك. فلما أتوا بمثل ذلك وعجز الخلق عن أمرهم وعن أن يأتوا بمثله، كان من تقدير الله عزّ وجلّ ولطفه بعباده وحكمته أن جعل أنبياءه عليهم السلام مع هذه القدرة والمعجزات في حالة غالبين وفي أخرى مغلوبين، وفي حال قاهرين وفي أخرى مقهورين. ولو جعلهم الله عزّ وجلّ في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين ولم يبتلهم ولم يمتحنهم لاتخذهم الناس آلهة من دون الله عزّ وجلّ، ولمَا عُرِف فضل صبرهم على البلاء والمحن والاختبار. ولكنه عزّ وجلّ جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم ليكونوا في حال المحنة والبلوى صابرين، وفي حال العافية والظهور على الأعداء شاكرين، ويكونوا في جميع أحوالهم متواضعين غير شامخين ولا متجبرين، وليعلم العباد أن لهم عليهم السلام إلهاً هو خالقهم ومدبرهم فيعبدوه ويطيعوا رسله، وتكون حجة الله ثابتة على من تجاوز الحد فيهم وادعى لهم الربوبية، أو عاند أو خالف وعصى وجحد بما أتت به الرسل والأنبياء عليهم السلام {لِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحيا مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ}.

قال محمد بن إبراهيم بن إسحاق رضي الله عنه فعدت إلى الشيخ أبي القاسم بن روح قدس الله روحه من الغد وأنا أقول في نفسي: أتراه ذكر ما لنا يوم أمس من عند نفسه، فابتدأني فقال لي: يا محمد بن إبراهيم لَإنْ أخرّ من السماء فتخطفني الطير أو تهوى بي الريح في مكان سحيق أحب إلي من أن أقول في دين الله عزّ وجلّ برأيي أو من عند نفسي، بل ذلك عن الأصل ومسموع عن الحجة صلوات الله عليه وسلامه)[5].

 

عدم وضوح دليل الولايات الشاملة

إن استشهاد البعض على الولايات الشاملة ببعض الآيات والروايات بتكلّف واضح يعني أن الله تعالى لم يوضح هذا الأمر بما فيه الكفاية، وإلا لَما احتاجوا إلى التكلّف ولَيِّ عنق النصوص نحو ما يزعمون. أو فلنقل إن مع وجود الآيات القرآنية الواضحة لمن يفهم لغة العرب باختصاص هذه الولايات بالله تعالى فبأي أسلوب يريدون أن يعبِّر القرآن المجيد عن هذا حتى يتركوا التكلف باستحضار آيات لا تدل على ما يزعمون؟ أي لو كان ما يقولون حقاً وله أصل في القرآن الكريم فلماذا صار غامضاً ولم يكتشفه جهابذة علماء الطائفة لقرون من الزمان حتى صدع به المتأثرون بالصوفية وابن عربي؟ ألا ينافي هذا بلاغة القرآن الكريم وحسن بيانه وأنه تبيان لكل شيء وكونه أُنزل لغرض هداية البشرية إلى الطريق المستقيم؟ ولماذا حُرم العلماء العظماء والمؤمنون من "نعمة" الإيمان بهذه الولايات؟!

إن للولايات الشاملة أهمية عقائدية ووجودية كبيرة وفيها لوازم خطيرة تمس عقيدة التوحيد، ولو كان لها وجود لَبيّنها القرآن الكريم بوضوح كي تتم الحجة على العباد كما بيّن سائر الأمور العقائدية بوضوح، وكي ينعم الخلق بفوائدها المزعومة التي لا نعلم ما هي، قال تعالى: {ما فَرَّطنا فِي الكِتابِ مِن شَيءٍ} [سورة الأنعام: 38]، وقال جلّ شأنه: {وَنَزَّلنا عَلَيكَ الكِتابَ تِبياناً لِكُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً وَبُشرَى لِلمُسلِمِينَ} [سورة النحل: 89]، وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُم وَيَهدِيَكُم سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيكُم وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة النساء: 26]. ولكننا نرى أن الآيات الكريمة واضحة بحد لا تتحمل وجود هكذا شيء كما بيّناه.

ولو قيل بأن القرآن الكريم لم يذكر تفاصيل عديدة في الدين، قلنا إن العقائد الأساسية قد بيّنها بوضوح ولو بالرجوع في بعضها للنبي صلى الله عليه وآله الذي بيّنها بوضوح قامت به الحجة على الناس. وأما ما يتعلق بالأحكام الفرعية فلم يُذكر الكثير منها في القرآن الكريم وبينتها السنة الشريفة بعد ما أحال كتاب الله لها، قال تعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُم عَنهُ فانتَهُوا} [سورة الحشر: 7]، وقال سبحانه: {يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم فَإِنْ تَنازَعتُم فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً} [سورة النساء: 59]. ولذلك فإن ما بيّنه رسول الله صلى الله عليه وآله تام الحجة أيضاً في الفروع، ولكن هذا مفقود بالنسبة للولايات الشاملة التي لم يصل دليل عليها من أهل البيت صلوات الله عليهم يورث العلم بها، ولم يُبينها علماؤنا الأوائل الذين كانوا قريبي العهد بزمان الأئمة سلام الله عليهم وكتبوا في العقائد كالصدوق والمفيد والمرتضى والطوسي رضوان الله عليهم.

أما ما وصل من أخبار بطرق ظنية يَفهم البعض منها الدلالة على الولايات الشاملة فنحن مأمورون بعرضها على كتاب الله تعالى كما في أحاديث العرض على الكتاب. ولو قيل بأن القرآن المجيد لم ينفِ هذا الأمر بوضوح ولن نجد مخالفة لكتاب الله لو تم عرض هذه الأحاديث على الكتاب، قلنا إن فيما قدمناه من الآيات كافٍ لمن تدبّر فيها لنفي وجود الولاية التكوينية والتفويض التكويني بالصورة الواسعة التي يدعيها البعض، وكذا وساطة الفيض.

 


[1] تفسير التبيان، ج 1، ص 106.

[2] تفسير الميزان، ج 14، ص 121.

[3] وهي معطّلة وفق ما تستلزمه مقولة "الواحد لا يصدر منه إلا واحد" الخطيرة لأن الله الواحد قد صدر منه واحد فقط هو الصادر الأول، ولا يصدر منه شيء غيره.

[4] تفسير الأمثل، ج 19، ص 65.

[5] كمال الدين وتمام النعمة، ص 537.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=183809
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 07 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 13