• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : باب السياب .
                          • الكاتب : د . محمد تقي جون .

باب السياب

لتكن قصيدة (باب السياب) للشاعر كريم القيسي ايقونة الحب العربية قبالة (البحيرة) للشاعر الفرنسي لامارتين. فكلاهما عبَّر عن لقاء منتظر من عاشق جلس وحده وسط ذكريات لقاء سابق يضجُّ بحب خارق للعادة، اشتغل به القلب بكل طاقة مضخات نبضه، والمشاعر والحواس والاحاسيس بكل عنفها وعنفوانها.

قصيدة ضخمة أو سفينة بطوربيدات عملاقة منحتها القوة والسرعة الكافية لتمخر عباب الشعر بهيبة وتمكن. أو حديقة من ورد الحب جمعت فنون وافانين كلام الجمال واللذة فأغنت عما سواها أو كادت. يجلس فيها العاشقون يتراشفون الراح ويجدون الراحة من ألم الفراق وأسف البعد.

قصيدة كبيرة: بظاهرها المحسوس وباطنها العميق، بصنعتها الماهرة وطبعها الموهوب. بصورتها الشاملة وروح الشعر الساكن في مطاويها حيث يراه النقد لا بعينه المجردة، بل بعينه الخابرة المخبرة فلا تخطئه. وهو الفرق بين الشعر الخالد وبين الميت البائد، وبين أبيات قليلة باقية في ضمير الدهر وبين نضائد من قصائد سقطت من يد الايام.

متميزة باشتغالات الفاظها الكثيرة، ودلالات معانيها الكبيرة. وبموسيقاها الجبارة التي هيمنت على تفاصيلها واشتركت واسهمت في تعبيرية وادائية كل جزئياتها من الفاظ ومعان وبيان وصور ورموز. فكانت ركنا اساسيا وحجر زاوية، ومفاجأة ايقاعية مذهلة في صناعة شعرية القصيدة. بحيث اذا كانت العبقرية الموسيقية في الشعر العربي تتقافز عبر ثلاث محطات: الاعشى، المتنبي، السياب. فما حققه الشاعر كريم القيسي بموسيقى بحر المنسرح تجعله المحطة الرابعة للشاعر المتميز بالعبقرية الموسيقية، وهو شاعر وموسيقي ومطرب.

التقيا في المربد، شاعر وشاعرة ملهمان مفعمان بالشعر والحب. والشعر مذ كان أقرب الى الشعور وأدنى من القلوب، فلم يكن مفر من الحب فكان الحب. وظل يكبر الوليد باللحظات حين يكبر سواه بالسنوات. وحديث الحب بينهما همس الفراش وأجيج البراكين، ماءٌ جلابٌ دافق ولهيبُ نيران حارق. وكانت الشفاه الادعى والادنى مستقرا ومُطفِئا للواعج مارد الحب المتعاظم. كان رواق (فندق مناوي باشا) منفذا ومنقذا للحبيبين لو انه كان أمينا كفاية. في الرواق ظلت القلوب تحترق وتتحرق للقاء، وكانت طلعتها كلؤلؤة الفجر تهتف به. ولكن حالت عيون في الجدار دون هذا اللقاء فمضى وعدٌ أدراج الحرمان. وبعد اعوام ذهب الشاعر وحده الى المربد، ومرّ بالرواق عينه، ووقف حيث وقف وحبيبته تنتظره، وفي نفسه شوق وحسرة وندم، وحديث شجون طويل ما زال به حتى ولدت القصيدة.

كم مرةٍ عَضَّ إصبَعي نابُ                   مذ حالَ بيني و بينَكِ البابُ

مذ لامسَ الأُصبَعان همسَ يدي              فمَسَّ قلبي الشغوفَ تِهيابُ

هبّت على الضفتين نسمتُنا                   فهزَّ موجَ السيابِ تِطرابُ

و مذ تسلقنا مركباً وجرى                    بنا ، جرت رغبةٌ و إعجابُ

مَدَّت لكفّي شراعَ إصبَعِها                    كأنّنا مذ سنين أحبابُ

و جَسّ نبضَينا وقتَها فزعٌ                    و الخوفُ تحت الرُّوَاقِ يرتابُ

و من شفاهي تسيل لهفتُها                    و تمسكُ النفسَ عنك أعصابُ

حبَستُ نفسي ، ورغبتي خَبَلٌ                خَشِيتُ من أن تُفَلَّ أسبابُ

خوفاً من القانصين خِلوَتَنا                    كي لا يَرَى شامَتَيك أغرابُ

فَقُبلَةُ الحبِّ قد تُباعِدُنا                         و تَحجُبُ اللهفتينِ أبوابُ

ورغم شوقي اصطبرتُ منتظِراً             لقاءَ يومٍ أناسُهُ غابوا

يستخدم الشاعر كل طاقات التعبير الابداعي للألفاظ، في استعارات وصور ورموز وايحاءات وغيرها. وهي لافتة ومحببة. ويسرد حكايته بغير مباشرة فيظل محافظا على تحليقه الشعري فلا يسف ولا يهبط حتى ختام القصيدة، وهو يتنقل بين فنون وافانين الجمال والبيان الشعري.

وهنا أنوِّه فيما يخص استخدامه الالفاظ الى المدرسة الشعرية التي ينتمي اليها الشاعر، فيورد منها ويصدر به عنها. وهي المدرسة العربية الاصيلة التي انطلقت من امرئ القيس وتطورت على يد المولدين في العصر العباسي، وتحدَّثت على يد شعراء النهضة، ثم أخذت بالإضافة والتعديل على يد الشعراء الرواد. وقد تشظى الشعر وكثرت مدارسه واتجاهاته، فمن الشعراء من انجذب الى الغرب، ومنهم من حافظ، ومنهم من اتاحت له امكاناته الفنية العالية أن يحافظ ويطور فجاء بالأصيل الجميل. وشاعرنا كريم القيسي من هؤلاء.

 ان الشعر او الطريقة الشعرية المستحوذة على المشهد الشعري العراقي الراهن، والتي حققت جمهورا وابهارا، هي التي تستعمل السيميائية والمفارقة اللفظية والتغريب مثل (مذ أمل) = (مذ أجل او زمن) وبناء علاقات غير مألوفة في الجمل مثل (غصن الغيم) (أخبز غيمي) (متحف الجوع) (فسرتُ احملُ شيبَ الكون في قممي) (أمشي ونزفي نخيلٌ فـي مرابعهِ) (انا بقايا طعام الأمس) (يحملني نملُ الهدوءِ) (تغفو أجراسُ القطنِ على كتفِيها) (يستيقظُ شحرورُ يديها(...  

والسريالية كقول عارف الساعدي:

رسمت غيما ولم ارسم له مطرا                 لكنه كسر اللوحات وانهمرا

وغيرها مما يمت الى الغرب اكثر مما يمت الى التراث. وأغلب هذه الانماط لا تكتب شعرا خالدا، بل شعرا مرحليا مثلها. ويبقى الشعر العربي هو الذي يكتب بالالفاظ الاصيلة واللغة الشعرية الخاصة، فاغلب هذا الشعر الرائج هو الذي تكون لغته يومية او ارفع قليلا. وقد اكدت كتب النقد العربية ضرورة ان تكون لغة الشعر مختلفة عن لغة الحديث اليومي. وان الشاعر كريم العراقي من الشعراء الحريصين على الابداع بمقاييس الاصالة العربية، وهذا سيرشحه الى الخلود وأن يتبوأ الصدارة.

قوافي الشاعر صارمة عذبة، يختارها بعناية وعفوية معا. والشاعر لا يختار قافيته عندما يصل اليها، بل يختارها عندما يبدأ البيت، فهي تلبس البيت كله أو يلبسها البيت كله. وتلك هي قوافي الفحول والشعراء الكبار.

أما بحر المنسرح فلي عنده وقفة طويلة ومهمة، فهو من الاشتغالات الجوهرية في ابداع القصيدة. ان اكثر القصائد المكتوبة على بحر المنسرح تأتي التفعيلة الثانية (مفعولات) مطوية فتصير (مفعلات). وفي هذه الحالة لا تتحقق الفلسفة الايقاعية لبحر المنسرح ولا يؤدي عمله المخصص له. فبحر المنسرح وبحر المديد فيهما نقطة أو منعطف تتوقف فيه الانفاس فتحاكي شخصا باكيا مقطوع النفس. اذا جاءت التفعيلة الثانية مفعولات تامة تأتي ثلاث ضربات قصيرة عند مفصل (مفعولا = تم تم تم = - ه – ه – ه). وهذه الضربات القصيرة المتتالية تعمل عمل طرقات قوية على باب القلب ويكون لها دوي في الاذن والنفس. وقد اختار بيتهوفن لسمفونيته (القدر) ثلاث ضربات أو طرقات في البداية، وحين سئل قال: القدر حين يأتي لشخص يطرق بابه ثلاث طرقات.

   لقد وظف الشاعر هذه الصدمة الموسيقية لأثارة الحزن الشفيف الذي يرتفع الى الاضطراب مرارا في اجواء النص لتكون خلفية موسيقية للنص تتحكم في حركته. وقد اطلعت على قصائد المنسرح الغزلية فلم اجد فيها الاشتغال الموسيقي الذي اشتغله الشاعر كريم القيسي في سبر اغوار البحر واستنفاد طاقاته الموسيقية والايقاعية، ومن كبار هؤلاء الشعراء: عمر بن ابي ربيعة، جميل بثينة، العرجي، العباس بن الاحنف. وقليلا ما يوردون ابياتا بالضربات الثلاث (مفعولا)، واذا تأتي فغير مقصودة ولا تحقق الغاية المطلوبة وبحر المنسرح كما يقول عبد الله المجذوب: يصلح هو والمديد للحزن أو الرثاء الشخصي. وأنا أقول بكل خبرتي وثقتي العروضية: ان بحر المنسرح لم يستعمله شاعر قبل القيسي بهذا الجمال والاحساس والتعبير الموسيقي

هذه قراءة تحليلية وصفية لنص (باب السياب) للشاعر العراقي الكبير كريم القيسي الذي لا نريد ان يظلمه النقد، وأن يكون حيث يستحق بجدارة. وهذه القصيدة جوهرة من جواهر شعره، واكليل يتوجه شاعرا كبيرا.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=181956
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 05 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 15