هو واحدٌ من أبرز اللغويين الذين عرفهم العراق خلال السنوات الماضية. بفضل جهوده البحثية في إثراء اللغة العربية وحمايتها من التحريف، نال مكانة كبيرة داخل العراق وخارجه.
تقول نادية العزّاوي في بحثها "أحمد مطلوب.. محطات من رحلة الحياة والكلمة"، إنه كان صاحب قلم غزير الإنتاج، ساح في مجالاتٍ متنوعة: البلاغة وتاريخها، تاريخ النقد، التراجم والسّير، الكتابة الإبداعية في الشعر والنثر، فضلاً عن دراساته النقدية التي تعاملت بأريحية مع النّصوص، فلم تقتصر على عصر أو حقبة، وإنما تنقّل بين النصوص التراثية والحديثة كيفما شاء.
كتب عن أشعار أبي حيان النحوي، والأخطل الصّغير، والقروي، ونازك الملائكة، وإبراهيم السّامرائي؛ كما كتب عن القزويني، والجاحظ، وأبي هلال العسكري، والآمدي. وألّف العديد من المعاجم المتخصصة، مثل معجم ألف ليلة وليلة.
بسبب ثقافته الموسوعية، بلغت إبداعاته 61 كتابًا في النقد والأدب والتاريخ واللغة، ونشر أكثر من 130 مقالا وبحثا علميا داخل العراق وخارجه. وقدّم عدة ندوات في الإذاعة حاوَر فيها أعلاما أدبية كبيرة مثل الكاتبة سهير القلماوي والروائي يوسف إدريس والشاعر حافظ جميل وغيرهم.
عرف العراق العديد من المفكرين اللامعين الذين أسهموا بحظ وافر في إثراء الثقافة العربية المعاصرة. يُعدّ جواد علي واحدًا من هؤلاء المفكرين. لعب علي دورًا رائدًا في تطوير البحث التاريخي بما قدمه من كتب ودراسات معمقة.
وبفضل هذه النجاحات، نال جائزة الدولة التقديرية للآداب في العراق عام 1987، وجائزة الملك فيصل العالمية عام 2008؛ فضلاً عن العديد من الأوسمة مثل وسام الدولة للآداب في العراق عام 1987، ونوط الامتياز من الطبقة الأولى في مصر عام 1990، ونوط الاستحقاق في العراق 3 مرات. وأصبح أحد أيقونات العراق في العطاء اللغوي.
النشأة في تكريت
وُلِد أحمد مطلوب في تكريت يوم 25 أكتوبر عام 1936. تلقى التعليم الابتدائي والمتوسط في بلدته، ثم الثانوي في بغداد. بعدها، التحق بكلية الآداب حيث درس في قسم اللغة العربية حتى نال شهادة البكالوريوس عام 1956 بترتيب امتياز، وكان الأول على دفعته.
عقب تخرجه مباشرة، عمل مدرسا في ثانوية كركوك ثم مدرسة تجارية ببغداد ثم عُيّن مُعيدًا في كلية الآداب جامعة بغداد عام 1958.
سافر إلى مصر، ودرس في جامعة القاهرة التي حصل فيها على شهادة الماجستير في البلاغة والنقد بدرجة جيد جدًا عام 1961. وبعدها بعامين حصل على الدكتوراه في التخصص نفسه بمرتبة الشرف الأولى.
عقب عودته إلى العراق، تسلّم العديد من المناصب؛ فدرّس في جامعتي بغداد والمستنصرية التي ترأّس فيها قسم اللغة العربية فور تأسيسها عام 1963. وفي العام التالي، عُيّن مديرا عاما للثقافة في وزارة الثقافة والإرشاد، ثم لاحقًا أصبح وزيرًا للثقافة لفترة قصيرة عام 1967.
عقب مغادرته الوزارة، استمرَّ في أبحاثه حتى حصل على درجة الأستاذية عام 1972، كما عمل أستاذا زائرا في معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة وجامعة مارتن لوثر في ألمانيا الديمقراطية وجامعة وهران في الجزائر، ثم تقلّد عمادة كلية الآداب سنة 1984.
وفي 2007، أصبح رئيسا للمجمع العلمي العراقي، وهو المنصب الذي شغله حتى وفاته عام 2018 عن عُمرٍ ناهز 80 عاما.
فارس اللغة العربية
يقول مطلوب في كتابه "التشريع اللغوي": كانت العربية قوية حينما كان العرب أقوياء، وكانت عالمية يوم كان العرب أحرارًا لهم دولة تمتدُّ من الأندلس إلى الصين، وكانت في هذه الأصقاع المترامية لغة تُخاطب ودين وتعليم وتأليف في مختلف العلوم.
في كل أبحاثه، حمل مطلوب هموم العربية لغةً وتاريخًا، مدافعا عنها ضد كل ما يعتريها من هجمات وأضرار. يقول مطلوب إن الاعتزاز بالعربية لم يكن مقصورًا على العرب وحدهم، وإنما كان المسلمون من غير العرب يعتزّون بها، ويؤلّفون بها وينظمون الشعر بها، وهو ما يتّضح في التراث العربي الإسلامي، وكان للكتب العربية أثر في النهضة الأوروبية.
ومن فرط اهتمامه بالعربية وخوفه عليها من الاندثار، أطلق العديد من الدعوات للحفاظ عليها وصيانتها، تمثلت في إنشاء منظمة تعنى باللغة العربية، والعمل على نشر الوعي اللغوي بتوظيف وسائل الإعلام، وإعادة النظر في مناهج تدريس العربية، وتطبيق الطُرُق الحديثة في تأليف الكتب وتدريسها وتعريب التعليم في جميع مراحله، ومشاركة المجاميع العربية في العناية باللغة العربية، وتحديد المصطلحات العلمية والألفاظ الحضارية، وعقد المؤتمرات القومية والقطرية للوقوف على مسيرة تدريس اللغة العربية، وتقديم المقترحات التي تحقق ازدهار العربية لتواكب العصر، وتستوعب المستجدات، ولإصدار تشريع يصون اللغة العربية كما فعل العراق حينما أصدر سنة 1977 قانون "الحفاظ على سلامة اللغة العربية".
عالم الاجتماع العراقي علي الوردي
انتقد رجال الدين وقدم تفسيرا جديدا للإسلام المبكر.. عالم الاجتماع العراقي علي الوردي
دخل الوردي في صراع فكري مع العديد من التيارات السياسية المتواجدة على الساحة العراقية في عصره. انتقده القوميون لميله للتركيز على الهوية العراقية. وانتقده الشيوعيون لرفضه الاعتماد على منهج التفسير المادي للتاريخ. وهوجم من رجال الدين مرارًا بسبب نقده اللاذع لهم.
وكذلك، تولى أحمد مطلوب طيلة عقدين من الزمن رئاسة اللجنة الوطنية العُليا في العراق للحفاظ على لغة الضاد، بالإضافة لنشاطاته البارزة في لجنة اللغة العربية في المجمع العلمي العراقي الذي أصبح رئيسًا له عام 2007.
واعتنى اللغوي العراقي أيضا كثيرًا بالتعريب، وألّف عدة دراسات عنه، أبرزها كتابه "حركة التعريب في العراق"، الذي أورد فيه تفصيلات غنية عن الجهود التي بُذلت منذ ثلاثينات القرن العشرين من أجل تعريب المصطلحات الأجنبية الوافدة على البيئة العراقية.
كتب في أحد مقالاته إن الحفاظ على العربية، وبذْل الجهود في وضع المصطلحات، والدقة في اختيار الألفاظ أهم ما ينبغي العناية به لتحتفظ الأمة بنقائها، وتصون كيانها، فلا تذوب في شعوب الأرض.
رجل المعاجم والبلاغة
تشعّبت جهود مطلوب اللغوية إلى تأليف عددٍ من المعاجم الفريدة من نوعها، مثل "معجم مصطلحات النقد العربي القديم" و"معجم الملابس في لسان العرب" و"معجم المصطلحات البلاغية وتطورها"، الذي سدَّ الفراغ الكبير الذي عرفته المكتبة العربية في مجال معاجم البلاغة العربية. استغرق إعداد ذلك الكتاب قرابة 10 سنوات، تتبّع فيه أحمد مطلوب التطور الزمني والدلالي لـ1100 كلمة عربية على مدار التاريخ.
وكتب عن هذه المهمة شاقة في مقدِّمة معجمه، قائلا إن وضْع هذا المعجم البلاغي لم يكن هينًا؛ فهناك مئات المصادر التي تحمل بين سطورها بذورا أو ثمارا، وكان على الباحث أن يقف عليها ويعيد النظر فيها ليأخذ منها ما ينفع ويضمه إلى ما اقتبسه من كتب البلاغة والنقد.
وفور صدور المُعجم، قال عنه الأديب السعودي محمد بن علي الصامل إنه من أوسع المعاجم البلاغية وأفضلها شمولاً للمصطلحات، وتنظيماً لها، وربطاً بين المتشابه منها، وإن اختلفت تسميته، وأكثرها دقة في توثيق المصطلحات من مصادرها.
مثّل "معجم المصطلحات البلاغية وتطورها" ذروة اهتمامات أحمد مطلوب بعلم البلاغة، والذي اعتبر أنها ليست علمًا قديمًا تجاوزته الدراسات الحديثة، وإنما هي أساس البناء اللغوي، وأكد أن البلاغة هي عنصر أساسي لفهم معاني القرآن وتفسيره وترجمته إلى اللغات الأجنبية.
من مُنطلق هذا الاهتمام، وضع مطلوب العديد من المؤلفات في علم البلاغة، منها: "أساليب بلاغية: الفصاحة - البلاغة – المعاني"، "البحث البلاغي عند العرب"، "البلاغة العربية: المعاني والبيان والبديع"، "البلاغة عند الجاحظ"، "البلاغة والتطبيق"، "البلاغة عند السكاكي".
الجرجاني الثاني
فور الإعلان عن رحيل مطلوب عام 2018، تسابقت العديد من المؤسسات العراقية إلى رثائه ونعيه، وكتبت بحقّه عشرات المقالات المادحة. ونعاه اتحاد أدباء وكتاب العراق بعبارة "ثانيةً يُغادرنا عبد القاهر الجرجاني" في إشارة ذكية لاعتبار أن جهود مطلوب اللغوية كانت خير امتداد لإسهامات النحوي الشهير عبد القاهر الجرجاني، والذي يُعدُّ مؤسس علم البلاغة في اللغة العربية بفضل كتابيه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة".
وبهذا الوصف الذي خلعه اتحاد الأدباء والصحافة العراقية على مطلوب، تستمرُّ حالة الاشتباك المعرفي بين الرجلين، والتي بدأت منذ أن ألّف مطلوب كتابه "عبد القاهر الجرجاني: بلاغته ونقده"، وقدّم نفسه للوسط الأدبي كخير شارحٍ لبلاغة الجرجاني، غير عالمٍ أنه سيُعتبر لاحقًا امتدادًا له وسيرتبط اسماهما في الوسط اللغوي والأدبي.
|