منذ عشرين عامًا وأنا اتذّكر كلمات امّي الحنون، حين أتممت عامي التّاسع وقدّمت ليّ هدية، كنت أظنها ستفرحني في ذلك اليوم...
كانت عباءة ذات لون أسود، اضطربت مشاعري عند رؤيتها، ودارت في رأسي كثير من التّساؤلات حتى رأيت عينا امّي تحدّقان بيّ وهي تبتسم، فقالت:
_ أعلم أنّك تنتظرين هديتك في يوم تكليفك الرّائع، وها أنا أحضرتها لكِ، يا بنيتي، هي سرّ سعادتك إلى الأبد...
_ هل التّستر بهذا الرداء هو سعادة؟!
_ هل إخفاء الجمال هو أمر جميل؟!
وَوو..... تساؤلات لم تنتهي، لكني وجدت عند أمّي الإجابات الّتي يطمئن لها قلبي...
&&&
_مازلت أتذكّر أني أرتديت تلك العباءة، واخفيت بها كلّ ملامح الجمال...
_لماذا يا أمي أرتديها؟
_كان سؤالًا محيرًا، وجهته إلى أمي.
_ابتسمت ليّ، ووضعت يديّها الدّافئتين على وجنتيّ، وقالت: بنيتي، هل تعتقدين إن الله تعالى يحبك؟
قلت: نعم، بالتأكيد يا أمي.
قالت: ومن مصاديق الحبّ أن نحافظ على الممتلكات الّتي نحبّها، خاصة إذا كانت ثمينة،
فقلت: ماذا تقصدين يا أمي؟
_صغيرتي، أنتِ من أعزّ المخلوقات وأحبّها إلى الله تعالى، لذلك أمرك بإخفاء هذا الجمال برداء يزيدك هيبة ووقار.
كلما وقفت أمام المرأة وأنا ارتدي عبائتي، أتذكّر كلمات أمي، ولكن مازالت تساؤلات كثيرة عالقة في ذاكرتي...
&&&
ارتديت عباءتي، وحملت حقيبتي في يدي، وتوجهت إلى الجامعة، تاركةً ذاكرتي مثقلة بتلك التّساؤلات...
لا يهم إن سمعت كلمات جارحة ممّن يعتبرنّ أنّ العباءة موضة قديمة، ربّما هي قناعات شخصية، وأنا ارتديها بإرادتي وقناعتي.
وقفت أمام المرآة للمرة الأخيرة وأنا استنهض نفسي، واتذكر توصيات أمّي، وكلماتها الدّافئة حين تحدثني عن العباءة، وكيف يعطي هذا الرداء هيبة.
فهل سيتحقق هذا الأمر في الجامعة؟
وهل سأنال اعجاب ممّن هم حولي أم لا؟
يا إلهي احتاج قوة ومعونة منك، أرجوك امنحني الصّلابة لأواجه الجميع.
&&&
خطواتي كانت متعثرة حين دخلت القاعة، كأني أرى نظرات الطّلاب أشواك تُغرز في قلبي، جلست في آخر مقعد ونحن ننتظر المحاضرة الأولى، التفتت ليّ إحدى الطّالبات، وقالت بهمس: "هل ترتدين العباءة داخل الجامعة"؟
نظرتُ إلى خصلات شعرها المتدلية من الحجاب، وعيناها تحدّق بيّ، فقلت لها: "وما المشكلة يا عزيزتي"؟
فجاء ردّها اقسى من سؤالها الأول،
"اتعرفين أنك في غاية الجمال، وأنا أودّ أن نكون صديقتين، لكن هذه العباءة تعطيك مظهر أكبر بكثيّر من عمرك، وبنفس الوقت هي لا تليق بطالبة جامعية فيا حبذا لو ترتدي شيء آخر غيرها".
في تلك اللّحظات بينما هي تتحدث، دخل الأستاذ إلى القاعة، فشعرت بإرتياح كبير لأنني أحتاج إلى وقت كاف للردّ على سؤالها، فكنت أعلم أني سأواجه كتلك النّظرات، وتلك الكلمات الّتي تستخف بهويتي وعقيدتي...
&&
تأملت كثيّرًا في مظهر تلّك الفتاة الّتي تنتظر جوابًا لسؤالها عن حجابي، وسبب ارتدائه.
تُرى هل أردّ عليها بما اقتنع به أنا، وكيف ليّ أن أقنعها؟
حينها عادت كلمات أمي إلى الذّاكرة، كغيمة تسقي عطش أفكاري وقناعاتي، ذكرت أنني ارتدي هذا الزّي ولستُ مجبرة عليه، بل أجد راحة واطمئنان حين أكون بهذا المظهر، في تلّك اللّحظة انتهت المحاضرة، فأمسكتُ بيدها وانطلقنا في حديقة الجامعة، وقلت لها بإبتسامة: أتعلمين عزيزتي أن
راحة المرأة تكمن في حجابها الشّرعي، وهو يزيد من ثقتها في نفسها، إذ يحميها من المُقارنات مع غيرها في تقييم جسدها؛ من نُحول وسُمنة، من طول وعرض، فهو يُغطّي الكثيّر من صفاتها الجسديّة، ويمنحها الرّاحة في الحركة والشّعور بالسّتر، وعدم لفت الانتباه لنظرات الإعجاب من الرّجال.
توقفت زميلتي عند سماعها الجواب، وقالت بإستغراب وتعجب: إني لم اسمع في حياتي فتاة تتكلم عن العباءة بهذه الطّريقة، وبهذا المنطق،
وبصراحة أنا احسدك على هذه القناعة.
أما أنا بعد أن سمعت ما قالته، تجاوزت كلّ تلّك الهواجس الّتي اثقلت أفكاري، وأدركت حينها أننا نحتاج إلى من يوقظ بداخلنا تلّك القناعات الّتي اندثرت بسبب الظروف.
|