تكملة للحلقات السابقة قال الله تبارك وتعالى عن البعث ومشتقاتها "قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ۜ ۗ هَـٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَـٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ" ﴿يس 52﴾ قال المكذبون بالبعث نادمين: يا هلاكنا مَن أخرجنا مِن قبورنا؟ فيجابون ويقال لهم: هذا ما وعد به الرحمن، وأخبر عنه المرسلون الصادقون، و "لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ" ﴿الصافات 144﴾ فلولا ما تقدَّم له من كثرة العبادة والعمل الصالح قبل وقوعه في بطن الحوت، وتسبيحه، وهو في بطن الحوت، لمكث في بطن الحوت، وصار له قبرًا إلى يوم القيامة، و "قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ" ﴿ص 79﴾ يُبْعَثُونَ: يُبْعَثُ فعل، ونَ ضمير، قال إبليس: ربِّ فأخِّر أجلي، ولا تهلكني إلى حين تَبعث الخلق من قبورهم و "وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ" ﴿غافر 34﴾ ولقد أرسل الله إليكم النبيَّ الكريم يوسف بن يعقوب عليهما السلام من قبل موسى، بالدلائل الواضحة على صدقه، وأمركم بعبادة الله وحده لا شريك له، فما زلتم مرتابين مما جاءكم به في حياته، حتى إذا مات ازداد شككم وشرككم، وقلتم: إن الله لن يرسل من بعده رسولا، مثل ذلك الضلال يُضِلُّ الله كل متجاوز للحق، شاكٍّ في وحدانية الله تعالى، فلا يوفقه إلى الهدى والرشاد، و "يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ۚ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" ﴿المجادلة 6﴾ واذكر أيها الرسول يوم القيامة، يوم يحيي الله الموتى جميعًا، ويجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيخبرهم بما عملوا من خير وشر، أحصاه الله وكتبه في اللوح المحفوظ، وحفظه عليهم في صحائف أعمالهم، وهم قد نسوه. والله على كل شيء شهيد، لا يخفى عليه شيء، و "يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ۖ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ" ﴿المجادلة 18﴾ يوم القيامة يبعث الله المنافقين جميعًا من قبورهم أحياء، فيحلفون له أنهم كانوا مؤمنين، كما كانوا يحلفون لكم أيها المؤمنون في الدنيا، ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند الله كما كان ينفعهم في الدنيا عند المسلمين، ألا إنهم هم البالغون في الكذب حدًا لم يبلغه غيرهم.
جاء في الامثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى "وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ" (المائدة 21). التّفسير: لقد أشارت هذه الآية أوّلا إلى قضية الوفاء بالعهد، و قد تكررت هذه الإشارة في مناسبات مختلفة في آيات قرآنية عديدة، و ربّما كانت إحدى فلسفات هذا التأكيد المتكرر على أهمية الوفاء بالعهد و ذم نقضه، هي إعطاء أهمية قصوى لقضية ميثاق الغدير الذي سيرد في الآية (67) من هذه السورة "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" (المائدة 67). و الآية في بدايتها تشير إلى العهد الذي أخذه اللّه من بني إسرائيل على أن يعملوا بأحكامه، و إرسالة إليهم بعد هذا العهد اثني عشر زعيما و قائدا ليكون كل واحد منهم زعيما لطائفة واحدة من طوائف بني إسرائيل الاثنتي عشر حيث تقول الآية الكريمة: "وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً" (المائدة 21). قوله عزّ و جلّ: "وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا" (النحل 36) يواجهنا السؤال التالي: لو كان لكل أمّة رسول لظهر الأنبياء في جميع مناطق العالم، و لكنّ التأريخ لا يحكي لنا ذلك، فيكف التوجيه؟ و تتضح الإجابة من خلال الالتفات إلى أن الهدف من بعث الأنبياء لإيصال الدعوة الإلهية إلى أسماع كل الأمم، فعلى سبيل المثال عند ما بعث النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مكّة أو المدينة لم يكن في بقية مدن الحجاز الأخرى نبي، و لكنّ رسل النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كانوا يصلون إليها و بوصولهم يصل صوت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليها أسماع الجميع، بالإضافة إلى كتبه و رسائله العديدة التي أرسلها إلى الدول المختلفة إيران، الروم، الحبشة ليبلغهم الرسالة الإلهية. و ها نحن اليوم كأمّة قد سمعنا دعوة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالرغم من بعد الشقّة التاريخية بيننا و بينه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذلك بواسطة العلماء الرساليين الذين حملوا رسالته إلينا عبر القرون. و لا يقصد من بعثة رسول لكل أمّة إلّا هذا المعنى.
جاء في الميزان في تفسير القرآن للعلامة الطباطبائي: قوله تعالى: "زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ" (التغابن 7) ذكر ركن آخر من أركان كفر الوثنيين وهو إنكارهم الدين السماوي بإنكار المعاد إذ لا يبقى مع انتفاء المعاد أثر للدين المبني على الأمر والنهي والحساب والجزاء ويصلح تعليلا لإنكار الرسالة إذ لا معنى حينئذ للتبليغ والوعيد. والمراد بالذين كفروا عامة الوثنيين ومنهم من عاصر النبي صلى الله عليه وآله منهم كأهل مكة وما والاها، وقيل: المراد أهل مكة خاصة. وقوله: "قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ" (التغابن 7) أمر النبي صلى الله عليه وآله أن يجيب عن زعمهم أن لن يبعثوا، بإثبات ما نفوه بما في الكلام من أصناف التأكيد بالقسم واللام والنون. و "ثُم" في "ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَ" للتراخي بحسب رتبة الكلام، وفي الجملة إشارة إلى غاية البعث وهو الحساب وقوله: "وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ" (التغابن 7) أي ما ذكر من البعث والإنباء بالأعمال يسير عليه تعالى غير عسير، وفيه رد لإحالتهم أمر البعث على الله سبحانه استبعادا، وقد عبر عنه في موضع آخر من كلامه بمثل قوله: "وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ" (الروم 27). قوله تعالى: "وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ" (الحج 7) الجملتان معطوفتان على "أن" في قوله: "ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ" (الحج 6). وأما الوجه في اختصاص هذه النتائج الخمس المذكورة في الآيتين بالذكر مع أن بيان السابقة ينتج نتائج أخرى مهمة في أبواب التوحيد كربوبيته تعالى ونفي شركاء العبادة وكونه تعالى عليما ومنعما وجوادا وغير ذلك. فالذي يعطيه السياق والمقام مقام إثبات البعث وعرض هذه الآيات على سائر الآيات المثبتة للبعث أن الآية تؤم إثبات البعث من طريق إثبات كونه تعالى حقا على الإطلاق فإن الحق المحض لا يصدر عنه إلا الفعل الحق دون الباطل، ولو لم يكن هناك نشاة أخرى يعيش فيها الإنسان بما له من سعادة أو شقاء واقتصر في الخلقة على الإيجاد ثم الإعدام ثم الإيجاد ثم الإعدام وهكذا كان لعبا باطلا فكونه تعالى حقا لا يفعل إلا الحق يستلزم نشاة البعث استلزاما بينا فإن هذه الحياة الدنيا تنقطع بالموت فبعدها حياة أخرى باقية لا محالة.
|