بين كُثبانِ الرمالِ المُلتهِبةِ بحرارةِ الشمس، وريحِ الأسى التي تعصِفُ بالنفس، خطواتٌ وخطوات، ودمعاتٌ تُذرَفُ لدمعاتِ..
الزمانُ العشرون من صفر، المكانُ طريقُ السبي والأسر، المنظرُ راياتٌ تخفقُ في سماءِ السائرين، حمراءُ وسوداءُ؛ فالحمراءُ ترمزُ للدمِ المهدورِ في العاشرِ من المُحرَّم، والسوداءُ تُعبِّرُ عن المواساةِ لسيدةِ الصبرِ الجميلِ، ولسجّادِها العليل، كما هو حال الثيابِ السوداء التي لم تُفرِّقْ بينَ صغيرٍ وكبير، ولا بينَ غنيٍ وفقير، إلا الرضيع فقد تميّزَ بثوبهِ الأخضر، تشبيهًا بعليٍ الأصغر..
وأيّ ثوبٍ ذاك الذي منحتْه السماءُ لعبدِ الله الرضيع (عليه السلام) حينما رأتْ قماطَه هوى على الصعيدِ مُلطّخًا بدمِ الوريد، حينئذٍ نادتْ أباه بصوتٍ حزين:
- دَعْه يا حُسين؛ فإنَّ له مُرضعةً بالجنة.
وبعدَ ذاك النداء، شاءتِ الأقدارُ بأنْ يكونَ للرضيعِ مهدٌ هنا وهُناك تقفُ عندَه الأنامُ في يومِ الأربعين، من كُلِّ عام، تارةً تهزُّه الأناملُ للبركة، وأُخرى لتذرِفَ الدموعَ على نحرِه المقطوع.
ثم بعدَ ذلك تعودُ الأقدامُ إلى مواصلةِ السير حتى نهايةِ الطريق، بل حتى بدايةِ حياةٍ جديدة، حيثُ جنةُ اللهِ (تعالى) تتجلّى على الأرضِ أمامَ أنظارِ الزائرين، وقد كُتِبَ على بابِها: (هذا قبرُ الحُسينِ بن علي (عليه السلام)).
تلك الحروفُ التي خطّتْها أناملُ السجّاد (عليه السلام) على صخرةِ الألم، وشهِدَها بنو أسد، حينَ مواراةِ الجسد، المُقطّعِ إربًا إربًا، كما شاهدَها جابرُ بعينِ البصيرة عندما وردَ أرضَ كربلاءِ يومَ العشرين من صفر، وما إنْ لامستْ يداه تلك الحروفَ النديّةَ بدمعِ زينِ العابدين (عليه السلام) والمُلطّخةَ بدمِ الشهادة، نادى بصوتٍ عالٍ:
- يا حُسين يا حُسين...
ولا من جوابٍ سوى صراخِ اليتامى ونحيبِ النساء!
أيا جابر، لسانُ حالِها يروي ما حصلَ من أرزاء؛ فأمّا عقيلةُ الطالبيين (عليها السلام) فتقومُ من قبرٍ وتقعُ على آخر، حتى انتهتْ إلى قبرِ حبيبِها الحسين (عليه السلام)، فرمتْ بنفسِها عليه، تضمُّه بينَ ذراعيها، وكأنّي بتلك الحروفِ النورانيةِ تهمسُ بأذنيها:
- ألم تقولي: سيُنصَبُ لهذا القبرِ علمًا، لا يُدرَسُ أثرهُ ولا يُمحى رسمُه، على كرورِ الليالي والأيام؟!
نعم، سيكونُ كما قُلتِ، بل ستُخلَّدُ زيارةُ الأربعين، على مرِّ السنين، حتى يأذنَ اللهُ (تعالى) لمهدينا بالظهور.
|