هل انتهت "القضبان لا تصنع سجنا" إم أنها فتحت ابوابا وسراديب لن تقفل أبدا"؟؟؟
لقد أنهيت قراءة الرواية منذ زمن وركنتها ضمن الادب الروائي الذي يغلب فيه الخيال على الواقع لكن شيئا ما موجعا جدا أعادني إلى قراءتها لكن وبثقة في تصنيف المؤلف والى حد معين وجدت الأحداث الموثقة بالاسم والزمان والمكان حقيقة ثابتة فايقنت أن هذا الكتاب ووجوده بين يدي ووصوله لي بالطريقة تلك جزء من قدر محتوم لكل من يبحث عما يمكن أن يصنع سجنا مادامت القضبان لا تصنعه.
هي أحداث حفرت على ناصية "الحياة" عانيت معكم ككل حرٌ، الوجع وعشته ولو بطريقة وان بدت مختلفة فهي من نفس المنطلق والنتيجة . قمع وطمس وتكبيل وتكميم .
رواية بدأت من حيث انتهت، إذ أنٌ القارئ لما يظن أنه فرغ منها يبدأ مشوارا اخر أكثر معاناة من شخوص الرواية.
هي الموجات اوالهزات الارتدادية الموغلة في الصميم الإنساني ليجد نفسه غارقا فيها وفي أحداثها من جديد يتخبط بين سراديب وظلمات حسبها لا تهمه ولا تعنيه وقد يكون رأى بعضها على شاشات التلفاز أو النت مثلما ظن أن سجن اميل حبيبي في المتشائل وهنري شاريار في le papillon أو مصطفى خليفة في "قوقعة" أو مليكة أوفقير في "السجينة" روايات ولو انها توثق لسيرة السارد الذاتية فإنها كتبت بمؤثثاتتارجحت بين الخيال والواقع حتى وإن اسعفته الذاكرة بحجج وأمثلة من بعض من كانوا هناك في سجن بقضبان.
أحداث "القضبان لا تصنع سجنا" ضمٌت وقائع يقف ازاءها المتلقي متفرجا في انحناء تعاطفا مع أبطال مأساويين يتخبطون بعيدا عنه زمانا ومكانا.
شخوص بدرجة من الثقافة العالية أدبيا أو علميا و حضاريا ليبحث هذا عن صنو له في التاريخ أو بيت شعري كأنه قُدّ على مقاسه فيستشهد "حامد"بابيات للمتنبي"
كن ايها السجن كيف شئت فقد. وطّنت للموت نفس معترف
لوكان سكناي فيك منقصة لم يكن الدر ساكن الصدف
وشعر الرثاء والشجن ينطق به جواد كاظم سلمان من أهالي الثورة :
آن اللقاء أخينا أين ارتحل .. ....أخلفت موعدنا ام الهوى بدل..
كيف ينتهي القارئ ويمضي إلى شأن آخر وصورة محمود بين السيد" عادل "وكاظم جوية" "وهما يربتان على كتفه ويوصيانه بالصبر والتجلد ليبلغاه نبأ وفاة والده..." وهو داخل "سجن بقضبان" .
عندما تعجز عن فسخ" المبرقع "وهو يصلي أو يرد على البخاث رد المؤمن بواجباته الشرعية أو وروحه تصعد إلى الرفيق الأعلى أو كرامة أو هدى أو صباح ابوهاشم أو انتظار الصغيرة جعفر ...أحمد ..محمود ...السجناء عندما يكون الخطب جماعيا بل إن الأذى طال الحيوان ايضا اذ يقول في ص٣١٦ "ولم تسلم منهم الحيوانات التي كانت تستعين بها العوائل في نقل الحطب .فقام ضابط اسمه (فائق) بإطلاق النار عليها وقتلها وكان هذه الحيوانات البريئة قد تعاطفت معهم أو اشتركت في محاولة قتل الرئيس...."
شخصيات ماساوية درامية تراجيدية لا تمثيلا وتقمٌصا لأدوار مدبٌجة بل هي من عانت الأذى ومنها من قضى تحت التعذيب و"فنونه"التي برع فيها السجّانون" لنيل اعتراف أو وشاية ترفعهم درجات وتزيد عدد نياشينهم ونجومهم البرٌاقة ورواتبهم .
قد يستغرب القارئ حين أغفلت اذرعة العنف والظلم .وهو إغفال قصدي . لا شان لهم بما خطه الراوي ولا بما فهمته وبما شغل فكري في هذه الرواية أو هذه الشحنة من الهم والغم والظلم التي ماكان لها أن تكون لولا قصر النظر وغباء من لم يتعظوا بالتاريخ ولم يفقهوا أن لكل ظالم نهاية وان دوام الحال من المحال و"ان من سره زمن ساءته أزمان "
إذ يقول عنهم في صفحة ٢٢١"كانّ الجلادين يتسامرون أو يغطون في نوم عميق ،لم تسمع آذانهم صراخ المعذٌبين ولا طرقات الابواب ، ومضت العاصفة تظهر في بطون من لا حول له ولا قوة ، إلى طلوع الفجر..."
رواية ليست بالرواية فهي خالية من التخييل والتخيل الا في تأثيث المشهدية الاقناعية لأن الخيال والذي لم يكن المؤلف في حاجة له يكون من موجبات الأثر الأدبي لأن الواقع ومرارته فتحت المسرح الحياتي الحقيقي على مصراعيه بتوثيق الزمان والمكان والشخوص والأحداث ليكون القلم أشبه بالكاميرا التي تلقطت الأحداث وتتبعت الشخوص بعضهم في مسيرتهم النضالية وبعضهم في مسيرتهم العنفية الظلامية وبعضهم في معاناتهم الصامتة الموجعة لفقد حبيب أو غياب قريب ومكابدة نتيجة تخوف من غد قد يكون قاسيا مرٌا معلقما...
وما زاد من ثراء هذه الرواية تلك الجداول التي وشحت عشرات الصفحات لتكون مصادر ومراجع لكل باحث أو دارس يبحث عن الحقيقة التي ظن الطغاة أنها أعدمت بإعدام ثائر أو معارض أو محتجٌ.أو تغييره في "أبو غريب "الغريب وغيره من السجون المكبلة بالقضبان .
* ملحق ١ المعتقلات والسجون في عهد صدام حسين .
* ملحق ٢ أسماء العوائلنن أهالي بلدالذين اعتقلوا في صحراء (الشيحيّات) سنة ١٩٨٢.
*٣ أسماء شهداء من أهالي بلد....
أما الاهم والذي يرتقي بالرواية إلى مقام الحجٌة والبرهان فعلا فهي تلك الصور من داخل السجن ،بدءا بمفتاح الزنزانة إلى نماذج من مذكرات المؤلف في سجن أبو غريب وصور المعتقلين في مشهد اقرب إلى التمثيل تزويرا وغشا أو لسجناء وراء" قضبان لم تصنع سجنا."
هي المذكرات التي بنت حجر الأساس لهذا المؤلف الضخم الحاضن الموثق لما قد يسقط من الذاكرة الشعبية الهشة .
هو مؤلف ثري ثراء الماضي المضرج ظلما وعدوانا وهو المحذّر لكل حاكم كي يعتبر ويتعظ .
هي وثيقة ستكون مصدرا ومرجعا لطلاب التاريخ والحضارة والأدب وهي التي تكتنز بتواريخ وشواهد أدبية ودينية غزيرة متنوّعة.
أتمنى أن تترجم إلى كل اللغات ليعرف الإنسان ماعاناه الإنسان من الإنسان اللاّانسانيّ .
"القضبان لا تصنع سجنا" رواية بفنيات السّرد الخطي المتواتر تتخلله قفزات وومضات واسترجاع من ماض بعيد أو قريب وتقنيات الحوار والمونولوج الذي يكشف ما ضرٌج الشخوص من تراكمات موجعة مؤلمة. إضافة إلى المشهدية المسرحية العالية في رسم المواقف والتقدم بالاحداث تصعيديا بحبكة تبنى وتسير نحو تأزم يشد المتلقي ويؤثر فيه بما يولد في نفسه نقمة على الطغاة وتآزرا مع الشخوص المكلومة المضطهدة.
وثيقة يعود إليها شباب الأمة كي ينبذوا العنف ويجنحوا إلى الحوار والتراحم والتسامح والتعاون ليبنوا غدا افضل من ماض مازالت دماء ضحاياه تؤشر على مجازر ومقاتل آثمة يقول في صفحة ٣٦٨ "أنذرت الولايات المتحدة الرئيس بسحب قواته من الكويت الى يوم ١٧ كانون الثاني ١٩٩١ ...هي تواريخ واحداث حفرت في الذاكرة وان صارت مجرد ذكرى فإن تبعاتها مازالت قائمة تعصف بالأمن الإنساني واستقراره إلى اليوم.
رواية تغوص بالمتلقي في المكان الذي سيكتشفه وهو يتابع خط سير شخصية أو فرقة أو مجزرة تتحرك في الارتال أو في المدرعات الحربية شمالا أو جنوبا .شرقا أو غربا.
بت اعرف المقاطعات والمدن وخصائص كل منها وما يميزها أو يخصها كانتماء سكانها ومذاهبهم فهم شيعة أو سنة أو أكراد أو أو ....فحينا تجدنا في شارع فلسطين وحينا اخر في ساحة بيروت. وأخرى في النجف أو كربلاء أو بابل ...
لكن الاهم فعلا والذي اؤاخذ عليه جبار عبود آل مهودر هو أنني وعندما انتهيت من قراءة الرواية وتخلٌصت من عبئها بل أعيائها فإنني لم انته منها خاصة وبصري ومثلما اصطدم بالعنوان "القضبان لا تصنع سجنا"فقد اصطدم بعبارة اربكتني أكثر من العنوان ومن السجن والقضبان أنها "وللحديث بقية"
آية بقية أيا سيدي ؟
اعلم واعرف أن الكاتب عندما يتكئ على الذاكرة فهي لن توفر له كل ماجدّ وحصل في الواقع والحقيقة المرة بل ستخذله الخذلان كله إذا ما أراد الغوص في الجزيئات ونبش مواطن يغلّفها الغموض فتبدو ككوى ضبابية تلتف على الحقيقة الحقّة. لكن الكاتب أيضا مسؤول لانه يتخيّر ما يوليه اهتماما ويفصٌله تفصيلا سردا ووصفا وحوارا، وما يهمله في رف النسيان لانه يكتب وفق منهج معين وزاوية رؤية معينة خاصة ببطل شخصية مشاركة في الأحداث وله عذره في ذلك لأن زمن السرد بعيد عن زمن الأحداث.
ايكون هذا الإفلات وهذا التغاضي هو "البقية" أم أنّ اللواحق أقسى من السوابق ام أنّ الذّاكرة المتحالفة مع الوجع والأسى مازالت ترشح بما سقط سهوا أو عن قصد لكاتب اعتنق النضال الموثق المؤشر عما حصل ذات حقبة مخيفة مرعبة.
ما التزم به أنني سأحاول ألا أقرأ هذه البقية كي لا أنشغل بها بقية زماني مثلما شغلنني "سجن لا تصنعه القضبان"
|