يستغرب البعض حين يراني أقرأ قصاصات جرائد، وكتب، ويتساءل: هل يُعقل أن بغلاً في الكون يجيد القراءة؟, مغرور هو البشر، يظن انه الوحيد الذي باستطاعته أن يفكر، أن يقرأ، أن يتأمل, ولا يدري اننا نحن –البغال- من أسس ثقافة الواقع في جميع مدركاته، لكن ماذا نفعل اذا كان البشر لا يعرف نفسه ويجهل غورها؟
فكيف سيدرك حياتنا وحيوانيتنا، ويفهم ما نعاني؟ كنت أفرح كثيراً حين أرى جندياً يقرأ، رغم أن الكل مشغول في حياته، الكثير من أصدقائي واقاربي استصعبوا العيش مع هؤلاء البشر، اخذتهم لغة الجفاف البشري نحو اليأس فانتحروا، أما انا فلي حياتي الخاصة بي، ربما اختلف عن بقية البغال، فأنا احب الحياة واعشقها، واتمتع بمنظر الجبال، وافرح كثيرا حين اساعد الجنود بنقل الماء والطعام اليهم.
اندهشت ذات يوم وانا أرى جندياً يقرأ كثيرا يتأمل ويبتسم مع نفسه، قلت: اكيد هذا الجندي إما اديب كاتب، او شاعر، كل ما في ملامحه يشير الى عمق احساسه، كنت أعرفه حين يبتسم، وأتيقن أن ثمة قصيدة في رأسه يحمل دائماً أوراقه في ثنايا إحساسه وذات يوم رأيته يصعد سفحاً جبلياً حاول الجميع تحذيره.
الجنود والعريف حذروه من التوغل اكثر في الصعود، يبدو لي حين تعتلي رأس الشاعر قصيدة لا يسمع صوتاً سوى صوتها، وتراني احرق القلب واريد أن أصرخ به: أيها الشاعر، هذا السفح ما زال ملغوما، ولم يجر المسح عليه لكنه لا يلتفت الى شيء، صرخت: لكن لا يسمع بنو آدم صراخ البشر مثلهم، فكيف سيسمعني انا البغل؟!
لم استطع ان اصبر اكثر من هذا؛ لأن الشاعر اصبح بمقربة من الموت، وعليّ أن اتصرف لإنقاذه، لا املك لحظتها سوى روحي، لذلك اندفعت نحوه راكضاً باتجاه النبع لا ادري ما الذي يدور في رأسه لحظتها، ربما ظنني فاراً من الاسطبل، وأنا أركض لا أفكر إلا في مسألة واحدة، أن الانسان مسكين لم يدرك ما افعل حين تجاوزته ثم تخطيته راكضا لأبعد عنه شظايا التفجير.
وما هي الا لحظة، سمع الجنود دويا مرعبا، تحولت حينها الى نافورة من دم ولحم وغبار، سقط الجندي الشاعر المسكين من هول الرعب متدحرجا مع الصخور وهكذا دون ان يدري هذا الشاعر اني ضحيت بحياتي من اجله، عساه يكتب يوما عني قصيدة حب، الكثير من الناس لا يعرفون ان البغال لها قلوب تحب مثلما هم يحبون، فرحت بنجاته كثيراً، وأسعدتني فكرة أن أموت من اجل حياة الاخرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذا البغل أنقذ حياة الشاعر عدنان الصائغ في جبل (دير كله) شمال العراق.
|