وقفت حائراً ..أنظر ببلاهة أمام تلك الشاشة العملاقة المليئة بالمعلومات عن حركة القطارات وأنا أمسك بيدي تذكرة القطار عائدا من زحام لندن وصخبها الى هدوء كامبردج وأناقتها. كانت تلك أول مرة أسافر فيها بقطار حديث وبالطبع فأن الفرق شاسع بين محطة تتسع لأكثر من خمسين قطارا تتحرك كلها ذهابا وأيابا في ان واحد, وبين محطتنا العالمية ذات القطار التاريخي الذي أكل عليه الدهر وشرب بالرغم من الثورة التكنولوجية الكبرى التي شهدها حين قررت وزارة النقل تغيير لونه من الأخضر الى الأزرق.
وبعد أن تمكنت مني هواجس التخلف عن قطار العودة بادرت بسؤال شاب أنيق وسيم عن قطاري المنشود, ومن حسن حظي أن الشاب أيضا يروم العودة الى كامبردج. وباسلوب لطيف قام الشاب بتعليمي كيفية حل طلاسم المعلومات المتحركة على الشاشة علمت نتيجتها كيف وأين ومتى..وكم ومن والى. وبعد تلك المساعدة الودودة أصبح الشاب رفيق رحلتي حيث ذهبنا سوية الى الرصيف المخصص وجلسنا معا في القطار جنبا الى جنب، ثم تحرك القطار.
وبعد أن طلبنا كوبين من القهوة شرعنا نتحدث في أمور عدة تنوعت بين السياسة والدراسة والتنمية وغير ذلك. وكم أدهشني ذلك الشاب بلباقته وأدبه خصوصا وأنه اخبرني انه كان يشارك في برنامج تلفزيوني اجتماعي في لندن, لكن الصاعقة الكبرى نزلت بي حين أخبرني ذلك الشاب بأنه يعمل زبالا في كامبردج... نعم، زبال.
نظرت اليه بفخر ممزوج بحفنة من الأسى والتعاطف..أحسست لوهلة بعد ذلك بقدر كبير من التواضع يملؤني تجاه ذلك الشاب، وأخذ مني الذهول كل مأخذ حين أخبرني بأنه ومجموعة من زملائه تطوعوا للعمل كزبالين لكي يقدموا خدمة للمجتمع وللبيئة وذلك من خلال تنظيفها وحمايتها من التلوث. ثم علمت بعد ذلك أن جميع العاملين في المجالات الخدمية في المجتمع الأوربي يحظون بالاحترام والتقدير والامتياز بدءا من المعلم وانتهاءا بعمال النظافة. ولهذا السبب فأن صديقي الزبال يشعر بالفخر والرضا بوظيفته التي يحبها ويخلص لها قدر احترامي له وللمجتمع الذي ينظر اليه تلك النظرة الأيجابية البناءة.
ولكن كعادتنا دائما حين ننظر الى الأمور من نافذة المقارنة صرت أنظر وأتطلع. وكم كانت خيبة أملي كبيرة حين دارت عدسة الذاكرة بي الى واقع الحال في عالمنا الذي استحال عدم دوامه. فلا عامل النظافة ولا حتى المعلم يحظى بالاحترام والتقدير في مجتمعنا الذي للأسف لم ينتبه الى أن هذا الشخص الذي يجمع القمامة أنما يقدم خدمة جليلة للمجتمع والوطن والبيئة، كما أن العامل نفسه لدينا لم ينتبه يوماً الى أن وظيفته لاتقل أهمية واحتراما (أن لم تكن أكثر أهمية واحتراما) عن كثير من الوظائف المترفة ذات الامتيازات اللامتناهية. تذكرت وظيفتي في الجامعة وتذكرت كيف يتعرض كبار الأساتذة علما وسناً(ناهيك عن غيرهم من المراجعين) للأهانة من قبل أصغر موظف في وزارة التعليم العالي أو غيرها من الدوائر.. وكيف يعامل مسؤول صغير باحترام بالغ رغم أنه شبه أمي ولا يشكل موقعه من الأعراب في المجتمع غير عبئ بيروقراطي ومصالح فردية وامتيازات طائفية وعشائرية وحزبية تصاعدت به الى ذلك المنصب كتصاعد الدخان في الهواء.
تسائلت بيني وبين نفسي لماذا تفخر أوربا حتى بزباليها بينما نحن بالمقابل لانجرؤ حتى على الفخر بأنفسنا أمامهم؟!! كنت أحس أحيانا عندما أقف عند أي نقطة تفتيش في بغداد أنني لم أكن لاصبح عراقيا ولم يكن أولئك الجنود ليصبحوا حماة للوطن الذي لم يكن ليصبح وطنا حقيقيا لولا تلك الاعلام الكثيرة التي وضعت على نقطة التفتيش والتي لكثرتها تشعر أن الحكومة وقواتها يحاولون أقناع العالم بأنهم عراقيون والدليل كل تلك الاعلام العراقية المصفوفة على جانبي الطريق عند نقطة التفتيش داخل مدينة بغداد معقل الحكومة ومسقط رأسها..تماما كما كان يفعل رأس النظام السابق حين وضع صوره في كل مكان على أرض الوطن ليعلن اختصار سيادة بلد كامل أرضا وشعبا وتاريخا وحضارة في شخصه فقط.
كما اننا بين الفينة والفينة نسمع في نشرات الأخبار بينات ترحيب تارة واستنكار تارة اخرى ضد المساس "بالرموز الوطنية". لكننا في الحقيقة لانزال ندور حول أنفسنا وحول معضلة "الوطن" الذي يساورنا الشك في حقيقة وجوده وسيادته كلما لاحت لنا اعلام العراق الجميلة (والكثيرة جدا) لدى نقاط التفتيش العراقية، في قلب العاصمة العراقية..أو كلما اضطررنا للوقوف رغم أنوفنا في الشارع لكي تمر قافلة أمريكية..أو كلما تعرض مواطن للأهانة من قبل جندي أو موظف حكومي من أبناء جلدتنا. ألا تجعلنا تلك الظواهر نشك بوجودنا في العراق أو وجود العراق أو وجودنا معا نحن والعراق على أرض الواقع. كيف أصبح كل من هب ودب رمزا وطنيا بين ليلة وضحاها؟ ماهي التضحيات التي قدمها حتى أصبح رمزا وطنيا؟ هل كان زبالا على غرار صديقي الذي أصبح فعلا رمزا وطنيا لبلاده؟ وكيف أصبح رمزا وطنيا وهو لم يتحرك لوقف نزيف الدم المتدفق ولم يكلف نفسه حتى بتقديم استقالته حين فشل في خدمة شعبه ووطنه؟ كيف أصبح رمزا وطنيا وهو يرفض تقديم كشف مالي أمام هيئة النزاهة؟ وكيف أصبح رمزا وطنيا والشك يحيط بسلوكه وارتباطاته وولاءاته؟ كيف أصبح رمزا وطنيا بعد ان باع وطنيته بثمن بخس مقابل الولاء الحزبي والطائفي والعشائري الخ؟
أعتقد أن مقياس الوطنية والمواطنة الذي تعطل منذ أكثر من ثلاثين سنة في العراق لم تصلحه التجربة الديمقراطية التي فشلت هي الأخرى في اصلاح الاوضاع المتردية في البلاد. لقد تناست رموزنا الوطنية ان مقياس الوطنية ذو علاقة بحجم الخدمات المقدمة للمواطن وهي علاقة طردية تقوم على أساس الخدمات كماً ونوعاً لا على أساس النوع العشائري والحزبي والطائفي الذي يحظى ب"الكم النوعي" كله، وأن مقياس الوطنية يقوم على أساس المساواة وعلى أساس أحترام المواطن الذي وجدت الحكومة ومسؤولوها لخدمته وتلبية احتياجاته دون تمييز. والحقيقة أنه في الوقت الذي يحظى فيه صديقي الزبال بكل التوقير والاحترام من قبل المجتمع, لا يجد رئيس الوزراء البريطاني سوى الاحتجاج والأستهجان بسبب قراره الاخير بزيادة اجور الدراسة الجامعية للطلبة البريطانيين مما جعله لايجرؤ حتى على الخروج الى الشارع الا بعد أن يقدم أعتذارا لمواطنيه وتبريرا مقنعا لرفع الاجور.
كلنا يعلم علم اليقين أن الحكومة من الشعب والشعب من الحكومة. لكن هذه القاعدة في العراق لاتنطبق علينا بشكل مطلق وانما بشكل نسبي ومنخفض ايضا. ولكن مع هذا تبقى الحكومة مطالبة بتادية التزاماتها وواجباتها تجاه الشعب، كما ان على الشعب ايضا أن يكتسب المناعة ضد الامراض الحكومية كالديكتاتورية والتسلط والظلم وغير ذلك من الامراض السارية والمعدية ولأجل هذا وجدت المنظمات غير الحكومية والصحافة والقضاء المستقل وغيرها من القوى التي يجب أن تعمل بفاعلية لضمان الوقاية. كما ان على الرموز الوطنية أن تتخلى عن كونها "رمزية" فقط وتعمل على اكتساب لقب الوطنية بجدارة واستحقاق.. مع الاعتذار لكل الرموز الوطنية الحقيقية.
|