الحطيئة من شعراء الجاهلية الذين أدركوا الإسلام، واشتهر بالهجاء رغم انه نظم في المديح والهجاء شأنه شأن الشعراء الجاهليين، إلا أنه كان هجّاءً عنيفاً وشديد اللهجة على من هجاهم، فلم يكتفِ بهجاء أعدائه، وإنما هجا أمه وأباه وأخاه وخاله وعمه، لا بل هجا حتى نفسه.!.
اسمه جرول، وغلب عليه اسم الحطيئة؛ لقصره وقربه من الأرض.
ولد في بني عبس، دعيّ النسب من أمة تدعى الضرّاء، فنشأ مغموزاً في نسبه، وكان من أولاد الزنا الذين شرفوا، وكان يريد أن يرجع بنسبه إلى بكر بن وائل؛ ليعوض عن عقدة النقص في داخله؛ كونه لا تضبطه أوصال النسب، ولا تشده حمية(١)، فنشأ نشأة صعبة ومريرة من غمز في النسب في مجتمع يزهو بشرف النسب والمكانة، اضافة الى ضعف جسمه، وقبح منظره، مما شكل لديه كرهاً لنفسه ولمحيطه انعكس كثيراً على شعره خاصة الهجائي منه، فهجا امه التي كان يحرجها عندما يسألها عن نسبه فتخلط عليه:
تقول لي الضرّاء لستَ لواحد .. ولا اثنين فانظر كيف شرك أولئكا
وأنت امرؤ تبغي أبا قد ضللته .. هبلتْ ألما تستفق من ضـلالكا(2)
وقال في هجائها أيضاً:
تَنَحِّـي فَاقْعُـدِي عَنِّـي بَعِـيداً .. أَرَاحَ اللَّهُ مِــنْكِ الْعَالَمِـينَا
أَلَمْ أُوِضح لَكِ البَغْضاءَ مَنِّي.. ولكِــنْ لا إِخــالُكِ تَعْقِلـينَا
أَغِـرْبَـالاً إِذَا اسْـتُودِعْتِ سِـرّاً .. وَكَـانَـوناً عَلَـى الْمُتَحَـدِّثِينَا
جَـزَاكِ اللَّهُ شَـرّاً مِـنْ عَجُـوزٍ.. وَلَقَّاكِ الْعُقُوقَ مِـنَ الْبَنِينَا
حَيَاتُكِ مـا عَلِمْتُ حَيَاةُ سَوْءٍ .. ومَوْتُكِ قد يَسُرُّ الصَّالِحينَا
وقال في هجاء أمه وأبيه:
ولقد رأيتكِ، في النِّساء، فسوأتني .. وأبا بنيك فساءَني في المجلسِ
إِنَّ الذَّليلَ لِمَن تزُور ركابه.. رهطَ ابن جحشٍ في مضيق المجلسِ
لا يصبرون ولا تزال نساؤهم.. تشكو الهَوَانَ إلى البئيسِ الأبأسِ
رهطِ ابن جحشٍ في الخطوبِ أذلَّةٍ .. دَسْم الثِّيابِ قناتُهُم لم تُضرسِ
بالهَمْزِ من طول الثِّقاف وجارُهم .. يُعطي الظَّلامةَ في الخُطوبِ الحُوَّسِ
قَبحَ إلالـهُ قبيلـةً لم يمنعوا.. يوم المجَيمر جـارَهُم من فقَعسِ
تركوا النِّسـاءَ مع الجِيادِ لمَعشَرٍ .. شُمْسِ العداوة في الحروبِ الشُّوَّسِ
أَبلغْ بني عبسٍ بـأنَّ نجـارَهم.. لـؤمٌ وأَنَّ أباهُـمُ كالهِجـرِسِ
يُعطي الخسيسةَ راغِمـاً مَنْ رامهـا .. بالضَّيمِ بعدَ تكلُّحٍ وتعبُّسِ
وقال في هجاء أبيه وعمّه وخاله:
لَحَــاكَ اللَّهُ ثُــمَّ لَحَــاكَ حَـــقّاً.. أَبًـا وَلَحَـــاكَ مِـــنْ عَـــمٍّ وَخَــالِ
فَنِعْمَ الشَّيْخُ أَنْتَ لَدَى الْمَخَازِي .. وَبِئْسَ الشَّيْخُ أَنْتَ لَدَى الْمَعَالِي
جَــمَعْتَ اللُّــؤْمَ لا حَـيَّاكَ رَبِّــي .. وأَبْوابَ السَّـفَاهــةِ والـضَّـــلاَلِ
ولم يكتف بصب جام غضبه على أمه وأبيه وأهله، بل انه هجا نفسه وذمها حينما رأى انعكاس صورة وجهه على ماء البئر:
أَبَتْ شَفَـتَايَ الْيَــوْمَ إِلَّا تَكَلُّـماً.. بِشَرٍّ فَمَا أَدْرِي لِمَنْ أَنَا قَائِلُهْ
أَرَى لِي وَجْهاً شَوَّهَ اللَّهُ خَلْقَهُ .. فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُهْ
ونتيجة لشخصيته المضطربة ونظرته الحاقدة على نفسه ومحيطه هجا قومه:
ﹶلعمري لقد جربتكم فوجدتكم .. قباح الوجوه سيّئي العِـذرات
لهم نفر مثل التيوس ونسوة .. مماجين مثل الآتن الـنعرات
وجدتكم لم تجبروا عظم هالك .. ولا تنحرون النيب في الجحرات(٣)
وتوضحت معالم شخصيته المتخبطة في اعتناقه الاسلام والردة عنه مراراً، وقال ذلك بصراحة:
ألا كل أرماح قصــــار أذلة .. فداء لأرماح ركزن على الغمـر
فإن الذي أعطيتم أو منـــعتم .. لكالتمر أو أحلى لخلف بني فـهر
فباست بني عبس وأفناء طيء .. وباست بني دودان حاشا بني نصر
فدى لبني ذبيان أمي وخالــتي .. عشية يحدى بالرماح أبو بـــكر
أطعنا رسول اﷲ إذ كان صادقاً .. فيا عجبا ما بال دين أبي بكـــر(٤)
وفي محاولة منه لفرض وجوده على محيطه، ولأنه كان يعلم جيداً تأثير الشعر في نفوس العرب :
» لما تيقظت في نفسه موهبة الشعر، لزم زهير بن أبي سلمى يعلمه أحكام صنعه على نحو ما كان يعلم ابنه كعباً، ومعنى ذلك أن الحطيئة من مدرسة زهير التي كانت تُعنى بالتعبير وصقله وتصفيته من كل شائبة، كما كانت تعني بالمعاني ودقتها»(5).
وكان ملازماً لكعب بن زهير للتقرب من ذلك البيت العريق نسباً وصيتاً لتعلم الشعر وللتعويض عن شعوره بتسافل نسبه.
ونتيجة لما قاساه الحطيئة، عانى من الفقر والعوز وضيق ذات اليد، وصعوبة توفير لقمة العيش لأهل بيته، أخذ يتكسب بالشعر من مدح وهجاء، وقد أكثر من هجاء الزبرقان حتى شكاه الى عمر بن الخطاب فحبسه حتى استعطفه بأبيات شعر فأطلقه، ويقال اشترى منه أعراض الناس (أي يكف عن هجائهم) بثلاثة آلاف درهم..!
وبقيت شخصية الحطيئة المضطربة حتى وفاته نستنتجها من خلال وصيته الغريبة حين حضرته الوفاة قيل له: أوصِ يا أبا مُلَيْكَةَ، فقال: مالي للذكور من ولدي دون الإناث، فقالوا: إن الله لم يأمر بهذا، فقال الحطيئة: لكني آمر به! ثم قال: ويلٌ للشعر من الرواة السوء، وقيل له: أوصِ للمساكين بشيءٍ، فقال: أوصيهم بالمسألة ما عاشوا، فإنها تجارةٌ لن تبور! وقيل له: أعتق عبدك يساراً، فقال: اشهدوا أنه عبدٌ ما بقي عبسي! وقيل له: فلان اليتيم ما توصي له بشيءٍ؟ فقال: أوصي بأن تأكلوا ماله. قالوا: فليس إلا هذا؟ قال: احملوني على حمارٍ، فإنه لم يمت عليه كريمٌ، لعلي أنجو! ثم تمثَّل:
لِكُـــلِّ جَــدِيـدٍ لَــذَّةٌ غَـــيْرَ أَنَّنــي .. رَأَيْتُ جَدِيدَ المَوْتِ غَيْرَ لَذِيذِي
له خَبْطَةٌ في الخَلْقِ لَيستْ بسُكَّرٍ .. ولا طَعْـمَ راحٍ يُشْـتَهى ونَبِيذِي
ونرى لهجة التمرد في وصيته وحب الانتقام من نفسه، وكل من حوله؛ بسبب معاناته في حياته.
توفي الحطيئة في عام ٤٥ هـ، وآخر ما سُمِعَ منه:
لا أحــدٌ أذلَّ مِـن حُطيئه ..هجــا بَنيهِ وهجــا المُرَيْئــه
مِـنْ لـؤمِـهِ مـاتَ على فريئه(6)
وبالرغم من ان النقاد وضعوا الحطيئة في خانة شعراء الهجاء، إلا ان شعره في المدح كروعة شعره في الهجاء من الناحية الفنية والابداعية، وفي شعره القصصي ايضاً، وكذلك شعره في الأغراض العامة قال أبو عمرو بن العلاء: لم تقل العرب بيتا قط أصدق من بيـت الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه .. لا يذهب العرف بين اﷲ والناس
وبلحاظ ما عاشه الحطيئة من حياة اتسمت بعدم الاستقرار وضبابية وجوده في قومه، وصل الينا شعره الهجائي منه وغير الهجائي مشحوناً بالتجربة الشعرية ونقصد بها «الصورة النفسية أو الكونية التي يصورها الشاعر حين يفكر في أمر من الأمور تفكيراً ينم عن عميق شـعوره وإحـساسه. وفيها يرجع الشاعر إلى اقتناع ذاتي، وإخلاص فني، لا إلى مجرد مهارتـه فـي صياغة القول؛ ليعبث بالحقائق أو يجاري شعور الآخرين لينال رضـاهم»(٧).
أي بكلمة اخرى أن شعر الحطيئة ليس مصطنعاً أو متخيلاً، وانما كانت كلماته هي عصارة ما عاشه وعاناه في حياته بكل تناقضاته واضطراباته وعقده النفسية، وانعكست بدورها على شعره الهجائي خاصة؛ لأنه أفرغ فيه كل مأساته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأغاني، ابو الفرج الاصفهاني: ج٢/ ص١٣٠-١٣١.
(2) المصدر نفسه: ج٢/ ص١٣٣.
(3) العذرات: من العذر.
مماجين: من المجون.
الجحرات: السنين الجداب.
الديوان: ص113.
(4) المصدر نفسه: ١٤٢- ١٤٣.
(5) العصر الإسلامي - شوقي ضيف: ص٩٦.
(6) الفريئة: تصغير فرأة وهي الأتان، أنثى الحِمار.
(7) النقد الأدبي الحديث - محمد غنيمي هلال: ص٣٨٣.
|