آتاه الله تعالى من جمال البيان وفصاحة اللسان، ومنَّ عليه بالحكمة والإيمان، حتى استقامَ على الحق، وثبُتَ فؤادُه، فسما قدرُه.
لم يصدّه طوفان الفتن المضلات عن الصمود والثبات، ولم تخدعه حيل الطغاة، فأبدى بسالة في مواجهة التحديات، ولم يثنِه عن المضي في طريق الهدى والنور تقريع حكام الضلالة والجور.
عاشَ في ظلّ الإسلام عمراً، وشرب الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) حتى نطق بحبّهم سراً وجهراً، وبقيَ على عهده ووفائه حتى ارتحل إلى ربه غريباً أبياً حراً.
تهديد ووعيد وإغراء، وسياسة مكر ودهاء، وتوسل بأساليب الطغاة اللعناء، قابلها بصبر وفطنة وذكاء، وثبات وصلابة وولاء، حتى أسقط ما في يد الأعداء، فلم يجدوا بُدّاً من تنحيته وطرده، فكان نصيبه التهجير والاقصاء، إنه بطل صفين والجمل والنهروان، ومن كان مع الأمير علي (عليه السلام) في كل الأحوال والأزمان، صعصعة بن صوحان (عليه رضوان المنّان).
سليل المجد والكرم، ومن نقش اسمه في سجل الثابتين في زمن الغربة والألم، خطيب فصيح بليغ فاضل، لم يفتأ عن بيان حق أمير المؤمنين (عليه السلام) وذكر المناقب والفضائل، من الشيعة الأوائل، الذين نالوا وسام النصرة، وتحدث عن فضلهم صادق العترة فقال: «ما كان مع أمير المؤمنين (عليه السلام) من يعرف حقه إلا صعصعة وأصحابه».
كان خفيف المؤونة كثير المعونة، عظيم القدر، شريف المنزلة عميق الفكر، عاش كريماً عزيزاً، ومضى بطلاً وفياً، ولا عجب فهو سليل أسرة عُرفت بولائها، وتميزت بحبها وفدائها، وقد استشهد يوم الجمل أخواه زيد وسيحان، حمل الراية بعدهما مدافعاً عن الحق وأهله ضد الظلم والطغيان؛ لأنه كان قويَّ الجنان، صُلبَ الايمان، يعرفُ أنّ القرآنَ مع علي، وعلياً مع القرآن، لا يفترقان مهما طال الزمان، وكيف لا يكون كذلك وهو القائل يوم بيعة الإمام علي (عليه السلام): «يا أمير المؤمنين، لقد زنت الخلافة وما زانتك، ورفعتها وما رفعتك، وهي إليك أحوج منك إليها».
واستمر في إبداء الولاء واظهار البراء، ونصرة الحق ومقارعة الأعداء، من خلال لسانه الذي كان بمثابة السلاح في وجه الظلم والاضطهاد، وبيان موقف أهل الحق أمام أئمة الجور والفساد؛ لذا فقد تحمّل كثيراً في طريق ذات الشوكة هذا، ولكنه استعلى على الضغوط والتحديات، واستعصى على لغة المساومة والاستدراج والتهديدات، ووجد معاوية ومن لفّ لفّه، ممن دخل معهم في حوارات ساخنة أن لا طريق إلى إقناعه وحرفه، ولا سبيل إلى اسكاته إلا بإرساله إلى حيث يلاقي حتفه، كما فعل سابقا بأبي ذر، فالسياسة واحدة والمنهج قاسٍ مُرّ، إذ لا خيار آخر، فإمّا أن تكون مع الخير أو الشر.
نُفيَ ابن صوحان (عليه الرحمة والرضوان)، من قبل المغيرة بن شعبة والي ابن أبي سفيان إلى جزيرة أوال، ففاز برضا الرب المتعال، وبقي اسمه ضياء في سفر الأبطال، الذين لا تطويهم الفتن عند وقوعها، والمحن عند اشتدادها، فيترجمون الحب بالأفعال بعد الأقوال، ويثبتون عند السلم وفي حالات النزال، فطوبى لهم وحسن المآل.
فما أحوجنا اليوم إلى استلهام الدرس من حياة هذا الرمز، في بناء أمة لا ترضى بالذل، وتتطلع إلى السؤدد والعز، فلطالما كان الحق غريباً وأهله غرباء، ولا يبقى معه عند اشتداد المحنة إلا الأوفياء، الذين يعلمون أن النصرة لا تكون بالشعارات، بل بالصبر والتحمل والثبات، وفهم العدو وأساليب مكره الخبيثة التي تدسّ السمّ في أوساط الأمة لتمزيقها، وحرفها عن طريقها، واقناعها بتغيير مسارها، والانتفاضة على ثوابتها، وإسقاط رموزها، والاستهزاء بقدواتها، وتهوين المنكر في عينها، وحثّها على صكّ السمع عن سماع مواعظ العقلاء فيها، أو الاصغاء إلى أهل العلم عندما تشتبك خيوط الضلالة إبان وقوعها.
إنّ صعصعة بن صوحان (رضي الله عنه) قدوة للثابتين في زمن المحنة، وأسوة لمن يريد نصرة إمام زمانه والفوز بالجنة، لا يزال ينطق فينا كلما مررنا على ذكره: أن أثبتوا وكونوا للحق أوفياء، وإياكم والتخاذل أمام الأعداء، أو التزلزل عند وقوع الفتن العمياء، التي يضلّ فيها كل مبتعد عن مصادر النور والنقاء، فما ثبّتَ أقدامي سابقاً على طريق الحق إلا حبي لسيد الأوصياء، ذلك الحب المتغلغل إلى عمق الروح الممتزج بالوعي وفهم حقيقة الولاء والبراء، فمتى انفتح القلب على ينابيع النور، أمن الفتنة، واجتاز المحنة، ووصل إلى رياض الأُنس والحبور، فالحب مصباح، والرجوع إلى أهل الحق عين الفلاح.
إنّ ابن صوحان (رضوان الله عليه) ينادينا اليوم من عليائه، أن كونوا مع الحق وأهله ضد أعدائه، وإياكم والسقوط في حبائل مكره ودهائه، وإن اشتدّ عليكم الظلام، وفقدتم القدرة على تشخيص الموقف للخروج من المحنة بسلام، فما عليكم إلا الرجوع الى الحكماء والعلماء والفقهاء، فهم صمام الأمان من كل فتنة طخياء عمياء، وبهم تقتلون الفتنة في مهدها، وتجتازون المحنة قبل أن تأكلكم نيرانها، ويُكتب لكم عمر جديد بعدها، تسيرون فيه مطمئنين، وتقضون أيامه هانئين، على بصيرة ويقين، بأنّ الأرضَ للهِ تعالى يُورثها عباده الصالحين، ولو بعد حين.
|