في كربلاء، على قلة أنصار الإمام الحسين(عليه السلام) كانوا بحق مدرسة كاملة متكاملة، لمن أراد أن يتتلمذ فيها، فهم مرآة لنا لنرى أين نحن في الالتحاق بقافلة الحق، فكم من السهل الادعاء، ولكن يبقى الفيصل ما هو الموقف الذي يَصدر منا في ساحة الميدان؟
إذ إن قول النبي الأعظم(ص): «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه، وأهلي أحبّ إليه من أهله، وعترتي أحبّ إليه من عترته، وذريتي أحب إليه من ذريته»(١)، هو المقياس والفيصل لذلك، وأصحاب الإمام الحسين(عليه السلام) الذين كانوا في ركبه في عاشوراء، كانوا أجلى مصداق في تسجيل موقف صِدق حبهم وولائهم للحق.
فعن الأسود بن قيس العبدي قال: قيل لمحمد بن بشير الحضرمي: «قد أُسر ابنك بثغر الري، قال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما كنت أحبّ أن يُؤسر ولا أن أبقى بعده». فسمع قوله الحسين(عليه السلام) فقال له: «رحمك الله، أنت في حلّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ابنك!»، قال: «أكلتني السباع حياً إن فارقتك! قال: فاعطِ ابنك هذه الأثواب البرود، تستعين بها في فداء أخيه. فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار»(٢).
فالناس صنفان في تجسيد وبذل الحب في حياتهم، كما في قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ»(3)، فمن لا يَضع تَعلقه وحبُه بالله تعالى، سيَضعُه في غير موضعه، ويَبذلُه لغير مُستحقيه، فيَظلم نفسه التي فُطرت على أن تَنجذب وتُحب الأكمل.
ثم تفصل آية كريمة أخرى بذكر المصاديق التي قد يُفتتن بها الإنسان كما في قوله تعالى: «قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ»(4)، فالأهل والزوج والعشيرة والأموال كلها مصاديق، إذا تُعلِق بها ستكون أنداداً؛ تحجبه عن أن يَسلِك طريق الحب الحقيقي، بينما تَقديم حب الله تعالى يوصل إلى إدراك أن هذه المصاديق وسيلة لبلوغ الكمال، وزوادة لمواصلة السير في طريق الرحمن.
إذ نجد أن (ابن بشير الحضرمي) بدءًا أظهر تألمه وحبه لولده مع احتسابه -فهو أب وهذا أمر طبيعي- ولكن القرار الحاسم الذي اتخذه دون تردد هو الذي يُعرفنا كيف استطاع جَعل حُبه لابنه بوابة نَفذ منها الى تجسيد حقيقة حبه لله تعالى ورسوله(ص)، فَقَدم حبه وولاءه وجهاده في سبيل الله تعالى على حبه لذريته، بل وحتى على نفسه، فَشُهِد له بصدق الولاء، ومضى شهيداً مكرماً. ونقرأ في زيارة الإمام المهديّ المنتظر (صلوات الله عليه وعلى آبائه) لشهداء الطفّ هذا المقطع الشريف، حيث يتوجه عليه السّلام إلى هذا الشهيد فيقول:
«السّلام على بِشرِ بن عُمَر الحَضْرميّ، شكَرَ اللهُ قولَك للحسين، وقد أذِنَ لك في الانصراف: أكلَتْني إذَنِ السِّباعُ حيّاً إنْ فارَقْتُك وأسألُ عنك الرُّكْبان، وأخْذُلُك مع قلّةِ الأعوان، لا يكونُ هذا أبداً»(5).
واستذكار شخصية بهذه الروحية العظيمة تقرب لنا المفاهيم التضحوية التي كان يحملها رجال الطف الحسيني (سلام الله عليهم)، ومن أجل تنامي ثقافة البذل والشهادة، وتفعيل عواطف الاستجابة لنعيش الموقف الانساني ونتفاعل مع قضايانا المصيرية، ومثل هذه الذاكرة هي التي أوقدت في الشباب شعلة الادراك وتسامى فيهم الوعي التضحوي لمقاتلة رموز الشر في كل زمان ومكان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ميزان الحكمة: ج١/ ص٥١٨.
(2) ترجمة الإمام الحسين(عليه السلام): ص٢٢١.
(3) سورة البقرة:165
(4) سورة التوبة:24
(5) إقبال الأعمال للسيّد ابن طاووس: ص576.
|