لكل هدف معان وغاية وأركان ترسم لذلك الهدف بنوايا تسبق حصوله، وبمعطيات تحددها مجريات الأمور عند وقوعه، إذ يتوقف بنجاح نيل ثمار ذلك الهدف على نجاح تلك الأركان، ومن خلال تلازمها مع بعضها عند الشروع بتأديتها، فأركان واقعة الطف أربعة لا غير، ولعل أشدها قدسيةً وبأساً وضراوةً شخص الحسين ومن كان معه في الميدان من أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، وفي مقدمتهم حامل رايته قمر بني هاشم أبو الفضل العباس بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).
أما الركن الثاني فهم عياله بدءاً بالامام زين العابدين العليل (عليه السلام)، وجملة النساء والأطفال، فكان رغم ملازمته الفراش إثر مرض عضال ألمّ به، يمارس دور الموجه للعيال باتجاه يرفد المعركة بالثبات والمنعة.
أما الركن الثالث، فهم حملة السلاح من بيت النبوة كعلي الأكبر والقاسم والحسن المثنى واخوة العباس وبقية المقاتلين من هذا البيت الطاهر (عليهم السلام) جميعاً، اضافة الى بقية المجاهدين من الأنصار، وفي مقدمتهم حبيب بن مضاهر الأسدي والحر الرياحي وغيرهم من الأبطال الاشاوس.
أما الركن الرابع وهو من الأركان المهمة والذي حال مع الأركان الثلاث آنفة الذكر دون سير عجلة العودة بالدين الاسلامي الحنيف الى الوراء، حيث الانتماء الضال لبني امية الى ما قبل مجيء الاسلام، وهذا ما أكده يزيد بن معاوية بأبيات قصيدته المنكرة، وهو ينكث شفتيّ ابي عبد الله الحسين (عليه السلام) ويقول: (لا خبر جاء ولا وحي نزل).
اذن، لابد لأبي عبد الله الحسين وهو امام عصره المكلف عدم مبايعته، بل لابد للامام الحسين أن يقف بوجه الردة ولو كلفه ذلك ما كلف، ولعل موقف الحوراء زينب (عليها السلام) شقيقة الامام الحسين (عليه السلام) ودورها المشرف في هذه المعركة من أعقد المواقف، وأكثرها حراجة وتعقيداً، فهي أخت حانية لأخ عظيم القدر، تحوم فوق رأسه غربان الشؤوم الأموي الضال، وتتوعده المنايا من كل صوب وحدب، وعمة لإمام مؤهل لقيادة الأمة بعد أبيه الحسين، وهو مسجى على فراش المرض في ساحة معركة، تتفجر فيها الدماء، وتشتعل فيها الأضغان والأحقاد.
وهي أم للأطفال والرضع ماسكة لزمام النسوة ومسيرة لأمورهن في خضم معركة غير متكافئة عدة وعدداً، فهي محسومة لصالح عدو غشوم موتور آنياً، فالحوراء زينب لها في كل موقع يعوزها قدم، ولها في كل باب صعب على سواها فتحه يد من حديد تتجه بارادة الأبطال، حيث يتطلبها الموقف، وحيث يعوزها أخوها الحسين (عليه السلام) وعياله وسط خضم المعركة التي استحضر بها العدو كل أساليب الأذى والتنكيل، فليس هناك من رحمة لطفل او امرأة او جريح.
اضف الى ذلك سماعها عويل النساء وصراخ الاطفال بعد أن استشرى أذى العطش في أكبادهم الحرى، لذا فقد كانت تمثل محور الردع بالصبر والجلد والهمة المتصاعدة مع تصاعد وطغيان أذى العدو الجائر، فكانت لساناً يرد تارة، وينصح تارة أخرى، ويداً تعالج وتشد الجراح، وعيناً تحرس العيال وتذب عنهم، وعيناً أخرى تتطلع الى أخيها الحسين (عليه السلام) والمنايا تحوطه وتترصده عيوناً شزراً، مُدىً مشرعات، لم تهن ولم تضعف، وهي ترمق بطرف تتسرب منه الدموع حال العيال وجثث الشهداء الاطهار المسجات عند باب كل خيمة من الخيام، عويل النساء الثكلى، وصراخ الأطفال مطالبين بشيء من الماء.
أضف الى ذلك، ما تعانيه جراء استقبال جثامين وما يفد اليها من الشهداء من اخوة وابناء اخوة وابناء عمومة وانصار من ساحة المعركة، لن ينال ذلك من ارادتها الصلبة، بل زادت تلك المصائب من تألقها واصرارها المشرئب الى اعانة اخيها الحسين (عليه السلام) انه موقف صراع مفاده رضا الرب، وهي القائلة عند رأس الحسين (عليه السلام): "اللهم ان كان هذا هذا يرضيك، فخذ حتى ترضى"، فالحوراء زينب هي لاتزال هي، ما كلّت لها خطى، ولا ضعفت لها بصيرة، مادام رضا الله حاضراً في عطاء أعاد للاسلام هيبته، مدركة أن ذلك العطاء سيبقى خيط دم موصول حتى قيام الساعة ثورة حسينية تنهض عند الحاجة اليها يعضدها سواعد شيعة علي (عليه السلام) دون هوادة بإرادة الباذلين، وتوجيه المتصدين من العلماء الأكفاء الذين ما خلت الارض منهم.
|