خطبَ أميرُ المؤمنين (ع) لمّا بويع في المدينة المنورة، وفيها يخبر الناس بعلمه بما تئول إليه أحوالهم، قال: (... والذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ لَتُبَلبَلُنَّ بَلْبَلَةً ولَتُغَربَلُنَّ غَرْبَلَةً ولَتُسَاطُنَّ سَوْطَ القِدْرِ حَتى يَعُودَ أَسفَلُكُم أَعلاكُم وأَعلاكُم أَسفَلَكُم ولَيَسبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا ولَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا..).
لقد كان (ع) ينطلقُ من رؤيةٍ واقعيةٍ واعيةٍ، وهي أن الأمة كانت مقبلة على محن وابتلاءات وفتن... وأن لهذه المحن والفتن عملاً عجيباً، إذا أنها ستقوم بعملية تصفيةٍ وتمحيصٍ شديدين، حتى يرتفع من كان في القعر إلى القمة، ويهوي من كان في القمة إلى القعر.
إنها خافضة رافعة، كما حدثنا القرآنُ عن يوم القيامة وصفاتها... نعم إذ سيتقدم الصفوفَ أناس كانوا مجهولين، وبعيداً عن الأضواء، إلى الأمس القريب؛ كما سيتأخر آخرون كانوا في الصدارة والأولوية، إلى الأمس القريب أيضاً. ولو درست الأحداث الكبيرة في التاريخ، فإنك ستجد هذه المعادلة صادقة بشكل مذهل... جاء الإسلام، وإذا بصناديد قريش في الأمس أذلاء اليوم، وإذا بعبيدها ومستضعفيها في الأمس الفائت قادة وإدلاء اليوم على طريق الهدى والصلاح...
ولقد كانت فترة حكم أمير المؤمنين (ع) اختباراً للأمة، إذ سبقت جماعة متأخرة وتأخرت أخرى متقدمة؛ فهي من الفترات النوعية التي غيّرت كثيراً من المواقع الاجتماعية عبر اختباراتها النوعية، ويمكننا أن نقول: بأن هناك أربع حالات من المواقف، وإزاء الأحداث التاريخية المهمة، وذات التأثير الحاد في مسيرة التاريخ والمواقف فهناك فئتان:
الأولى: فئة من السابقين الذين كانت سابقتهم عن وعي وإيمان وإخلاص، فهؤلاء يبقون على تلك الأسبقية، وذلك السمو، كعمار، وقيس بن سعد بن عبادة، ومحمد بن أبي بكر، ومالك الأشتر (رض).
الثانية: فئة من المقصرين بقيت على تقصيرها وتخلفها عن ركب الهدى، كعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية، إذ كانوا مصرّين على محاربة الحق وأهله.
فهناك اطمئنان على الاستقامة أو اطمئنان على الانحراف في الفئتين السابقتين. أما عموم الأمة، فأن المحنة والابتلاء، تحدث فيها تغيرات كبيرة وضخمة في المواقع والمواقف، وهما الحالتان الثالثة والرابعة.
وتعتبر حالة الهجرة وانتقال الإنسان من وطنه إلى أرض أخرى، وتغيير حالات الابتلاء وتنوعها، من الأمور التي تلعب دوراً كبيراً في غربلة المؤمنين وتمحيصهم.
وكم كان حديث رسول الله (ص) عميقاً ومربياً وواقعياً، حينما تحدث مع أصحابه بعد الهجرة، وبداية عصر قوة الإسلام؛ وكان (ص) ينظر إليهم وإلى مواقفهم بعد الفتوحات والأموال والأمن وانفتاح الحياة عليهم، بغنائمها ووفرة إغراءاتها... لقد كان يقول (ص): (إني من بلاء الرخاء أخوف عليكم من بلاء الشدة!! إنكم ابتليتم فصبرتم، وأن الدنيا حلوة نضرة). ويالها من نظرة تقييمية تربوية واعية.
إن الإنسان المؤمن حينما يواجه بلاء الشدة، فإنما يواجه عدواً خارجياً، ظالماً يضطهده، منافقاً يؤذيه، أما في بلاء الرخاء، فان العدو هو عدو داخلي، إنه النفس وشهواتها وطموحاتها ورغباتها!! فهناك الكثيرون قد يثبتون عند ابتلاءات ومحن الشدة من الخوف والسجن والتعذيب، والآلام الأخرى... ولكن ياترى كم منهم سيثبت أمام إغراءات المال والجاه والجمال، حينما تفتح أمامهم أبواب لم يتصوروها ذات يوم، ويعيشون أجواء ما كانت تخطر لهم على بال؟!
|