
في صيف عام 1982 أطلّ علينا رجل أمنٍ لايجيد من كلام البشر جملةً واحدة ،لكنه يمتلك بعينيه الحادتين وشكله القبيح وسجل عمله اليومي قدرةً على إرهاب ضحاياه ، إنه الشرطي حاتم ، أطل من باب الزنزانة التي يقبع بها خمسةً وثلاثين شاباً ، يتأمل في الوجوه ، فأشار على شابٍّ بجانبي ، ورغم أن علاقتنا في الزنازين مع بعضنا البعض قوية ومتينة كرفاق محنة ، وأصحاب قضية واحدة ، ولدينا هم مشترك ، ويربطنا أكثر مما يفرقنا ، إلا أن شعوراً ما يشبه الطمأنينة قد خطر بنفوسنا ، إذ أن اختيار أحدنا يُنهي مشهد القلق الذي نعيشه جميعاً داخل الزنزانة ، لأن رجال الأمن عادةً ما يختارون ضحية واحدة من الزنزانة لكي يلهوا بها مساءً أو صباحاً ، فينزلوا بها سياطهم وركلاتهم ، وسيلاً من قذارات ألسنتهم وكلماتهم الفاحشة والبذيئة ثم يعيدونها الى الزنزانة لكي يعتبر الآخرون ، وإلا فلا سبب حقيقي للمخالفة ، الذنب الذي ارتكبه صاحبي أن طريقة جلوسه لم تكن منتظمة حسب رأي الجلاد، فبدل ان يجلس القرفصاء ويضم رجليه الى صدره ويحيطهما بيديه ، أبعدهما قليلاً وأرخى يديه ، وتلك إهانة للمفتش المجرم . جرت الأمور بخلاف ما نتوقع ،إذ لم يكتفي الشرطي الحقير بمذنب واحد وراح يقلب نظره بوجوهنا وأشار إلىَّ أن أدنو منه قرب باب الزنزانة ، وبادرني قائلاً
أنت حاقد عليّ تمام ؟
لا أبداً ، فنحن لا نعرف الغل والحقد .
أكيد إنك تقول في نفسك ، سأظفر بك غداً إذا خرجنا من السجن أو تغيرت الأحوال ( يعني سقوط النظام ولكنه لا يستطيع التصريح بذلك ) ؟
لا أبداً أنت مشتبه . انا أكثر الموجودين حكماً وأقدمهم سجناً هنا وأعلم كيف يفكرون ، لا أنا ولا غيري سيؤذيك إذا ما تغيرت الأحوال . ادار وجهه وانصرف وبعد خطوات من انصرافه ناديته ، استاذ استاذ أتدري لماذا لا نريد الانتقام منكم لو تغير الحال ؟
لماذا ؟
لأننا نؤمن ان انتقام الله أجدى وأقوى ، ولأننا نعلم أن القلق ووخز الضمير وحده سينال منكم الكثير . فهز رأسه ساخراً وانصرف ، وسكن الروع وخف القلق ، ودق منبه الموبايل لأجد نفسي على سريري صبح الثلاثاء 8/2/2022 ، إنه كابوس مزعج حقاً ، وهو حقيقة وليس خيالاً مني ، لم أضف عليه ولم أنقص منه شيئاً رويته كما رأيته في المنام .
أقول : رغم مرور ثلاثين عاماً على توديع الزنازين وعشرين عاماً على توديع حقبة الديكتاتورية ، فلازالت تلاحقنا في اليقظة الذكريات المؤلمة وفي المنام كوابيس الأحلام . الحمد لله الذي أرانا قدرته في الظالمين . انقلبت الأحوال ورحل النظام غير مأسوفٍ عليه ، وكما رأيت في منامي ، لم ننتقم ولم نثأر ولم نخض بدماء الجلادين كما خاضوا بدمائنا ، وللأسف لازال الغالب منهم ميت الضمير ، فلم يعتذر للشعب أمام الاعلام ولم يتب ولم يندم علناً على ما فعل ، وما يؤلم أكثر أن قسماً منهم ركب موجة القاعدة وداعش وجيش النقشبندية وغيرها من التنظيمات الوحشية والتكفيرية ،فارتكبوا أشد الجرائم وأكثرها خسةً ونذالة ، ولم ينل وخز الضمير منهم إلا القليل القليل ممن أباح بتلك الأفعال في لقاءات خاصة وعامة .
ملاحظة : للشرطي حاتم حكاية حقيقية لا تُمحى تجمع بين شجاعة الضحايا وجبن الجلاد وهي حكاية وقعت أحداثها في الزنزانة رقم 13 في ق1 سنرويها في يوم ما .
|