انشغل العالم فى الأيام القليلة الماضية بالمشروع الكبير الذى أطلقه مؤسس الشركة الشهيرة «فيس بوك» للتحول إلى شركة جديدة بمسمى «ميتا فيرس»، هدفها الرئيسى أن توفر للإنسان فرصة بناء عالمه الافتراضى والعيش فيه بعيداً عن قيود الزمان والمكان، وأيضاً بعيداً عن قيود القوانين والأخلاق ومنظومات القيم، سواء الدينية أو المجتمعية المتعارف عليها فى كل مجتمع على حدة. البُعد الرئيسى فى هذا التطور يمزج بين أمرين؛ أحدهما مادى يتعلق بالأدوات والأجهزة التى ستوفر للمستهلك فرصة بناء عالمه الافتراضى المتخيل الخاص به، وهى نظارات وقفازات وشرائح للاستشعار بحالة المستهلك الذهنية والفكرية والعاطفية وكاميرات عالية الدقة تمسح كل بوصة فى المكان الفعلى الذى يتحرك فيه المستخدم.
أما البُعد الثانى فهو المعلومات التفصيلية عن كل شىء فى الحياة حولنا، بما فى ذلك المعلومات الخاصة بالمستخدم فى كل تحرك يقوم به وكل حالة نفسية يمر بها. فضلاً عن المعلومات التى يتم جمعها وتخزينها فى العوالم الواقعية من خلال أجهزة الحاسبات الآلية العملاقة كالتى تتوافر بالفعل لدى محرك البحث «جوجل» وشركة «فيس بوك» ذاتها وملحقاتها من «إنستجرام وتويتر ولينكد إن» وغيرها.
والأمران معاً لن ينجحا إلا فى حال وجود شبكة إنترنت سريعة وقوية ويمكنها أن ترسل وتستقبل المعلومات فى اللازمن، وبما يحقق الانتقال من المكان إلى اللامكان فى اللاثانية، أو هكذا تعد تكنولوجيا «الميتافيرس» المتطلعين لاستخدامها فى غضون خمس سنوات أو أكثر قليلاً.
العالم الافتراضى على هذا النحو لن يكون متوافراً للبشرية جميعاً كما هو الحال نسبياً بالنسبة لشبكة الإنترنت الحالية التى تصل إلى أكثر من 80 فى المائة من البشر. والعامل المؤثر هنا وإن كان اقتصادياً ومرتبطاً بدرجة التقدّم أو التخلّف وحالة البنية الأساسية المتوافرة، فإنه يدفع إلى إعادة تقسيم البشر إلى المنتمين إلى العالم الافتراضى برحابته وبمشكلاته وتعقيداته وتقنياته وتكاليفه، وهؤلاء المجبرين على تجاهله وعدم الالتفات إليه.
عدد من الخبراء الأوروبيين والأمريكيين المتابعين لأداء «فيس بوك» كشركة عملاقة لديها حجم هائل من المعلومات عن المستخدمين لتطبيقاتها يرون الانتقال إلى العالم الافتراضى كما روّج له مؤسس الشركة وصاحبها هو نقلة إلى المجهول، فهو إن كان سيؤثر على طرق التسوق وخوض تجارب حياتية افتراضية غير واقعية وغير مادية لفرد يشكل شخصية خاصة به فى صورة كاريكاتيرية، تتفاعل مع أفراد آخرين فى أى مكان بالعالم من خلال الشخصيات التى يبدعونها لأنفسهم، سواء للعمل الجاد أو الترفيه، فإن المعضلة الكبرى تتعلق بزيادة درجة الانعزالية الفردية، والتعرّض لحالات توحد واكتئاب تدفع إلى الإدمان الإلكترونى، ومن ثم التنمر الإلكترونى والتسلط الافتراضى، وهى تفاعلات ذات طابع عاطفى وذهنى، وبما سيؤثر على طريقة تنشئة وتربية الأجيال الجديدة، والتى لا يعرف أحد كيف يمكن تنشئتها فى هذا العالم الافتراضى الجديد.
الثابت أن الألعاب الإلكترونية التى تعتمد طرق تفاعل افتراضية عبر النظارات، أو تدمج الشباب المستخدم، وهم فى سن مبكرة، فى اللعبة بأعلى درجة من التوحّد والانفعال والارتباط العاطفى بمستويات اللعبة المتصاعدة، تؤدى بالفعل إلى أمراض كثيرة وتصيب قطاعات كبيرة من هؤلاء المستخدمين لتلك الألعاب بتشوهات ذهنية وسلوكية، إلى حد الاندفاع للانتحار. وفى العالم الافتراضى الذى يبشّر به زوكربيرج نوع من التماثل مع أساليب تلك الألعاب الإلكترونية، ولكنها ستكون لكل الأجيال، وليس فقط الأجيال الناشئة، ومن ثم يتوقع أن تزداد بمعدلات رهيبة حالات التشوه الذهنى لدى الذين يدمجون أنفسهم فى هذا العالم الجديد دون وعى كافٍ.
والنقطة التى تلفت النظر هنا تتعلق بمن سوف يستخدم المعلومات الشخصية للمستخدمين، وكيف يمكن ألا تستخدم تلك المعلومات فى التأثير على توجّهاتهم بشكل عام، سواء المتعلقة برؤيتهم للحياة أو الموقف السياسى أو العلاقة بالدين أو الآخر أو منظومات القيم التى يعتمدها كل مجتمع باعتبارها الأنسب له.
ومعروف أن «فيس بوك» سمحت، حسب التحقيقات الجارية فى الولايات المتحدة باستخدام بيانات قطاع من المستخدمين عبر طرف ثالث، للتأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية قبل خمس سنوات. وليس هناك ما يضمن ألا تقوم الشركة الجديدة وريثة «فيس بوك» بالعمل ذاته، ولكن على نطاق أوسع بكثير يهدّد كل المجتمعات على نحو خطير.
العالم الافتراضى المُبشّر به سيؤدى إلى تشكيل تحديات كثيرة يجب التفكير فيها منذ الآن، ووضع الضوابط المناسبة للتعامل معها، مع الأخذ فى الاعتبار أن المسألة ليست تكنولوجية وحسب يتعامل معها التقنيون، إنها مشكلات وتحديات كبرى تتعلق بأسلوب الحياة، بداية من طريقة تنشئة الأجيال الجديدة التى سوف تجبر بشكل أو بآخر على التعامل مع هذا الوافد الجديد.
الأمر يتطلب دراسات ذات افتراضات مفتوحة وليست مغلقة ونابعة من خبرات سنوات طويلة مضت، وعلماء النفس والاجتماع والتربية والتعليم والدين مطلوب أن ينظروا إلى الأمر من جميع زواياه، والاستعداد بأساليب وطرق تفكير مبتكرة حماية لأبنائنا من هذا المجهول.
والمسئولون عن الأمن القومى سيكون عليهم عبء كبير فى حماية كل ما يتعلق بأمن البلد وأمن المجتمع، وكيفية حمايته من الاختراق وكيفية الحفاظ على المعلومات ذات المغزى والأهمية، ومنع تسريبها إلى جهات لا نعرف عنها شيئاً.
تمتد المسئولية إلى الأفراد أنفسهم، لاسيما الآباء والأمهات المكلفون بحُسن تربية أبنائهم ومدهم بالقيم الرصينة والأخلاق الحسنة، والحقيقة أن الخطوة الأولى تتعلق بالجهات المعنية التى عليها أن تستفيض فى شرح هذا العالم الافتراضى الذى سيحل علينا فى السنوات المقبلة، وتساعد الآباء والأمهات وجميع الأسر على بناء وعى ذاتى يحول دون الانزلاق إلى ما لا يحمد عقباه. الأمر ليس بهين، وملامح الخطر تطل بوجهها الكئيب، فليحذر الجميع.
|