• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ .
                          • الكاتب : زهراء حسام .

الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ

 أفِلت أيّامُ عاشوراء، دخلنا في العشرة الثانية من شهرِ محرّمٍ الحرام، عاد الجميع الى منازلهم، تكَفكَفَت الأدمُع، وإعياء الحزن باديًا حتى على الرايات المرفرفة فوق سطوح الدور، يبدو سوادها باهتًا من الجزع، واللّافتة البيضاء التي طرز عليها بالخيط الأحمر (تبكيك عيني لا لأجل مثوبةٍ) بدت وكأنها نشجت دمعًا حدّ النفاذ، وشحَب لون خيطها..
أتجول في الشوارع وأنا أرى أصحاب المواكب يجرّدون السرادقات من الأعمدة ومعها تُنتزع قلوبهم، يودّعون بعضهم البعض بعبارة (الله يعودكم)
ويمضون..
تمتد يدي لإيقافهم وترتدّ
تلكُز في قلبي أصوات القدور وهي تتداخل مع بعضها ثم توضع في السيارة وتغادر بصري..
يبدو الشارع خاليًا من المواكب، وأنا لا أطيق صفير الهواء وهو يمرّ عليها، سيظل يحمِل الذكريات ويغرزها في أدمغتنا ثم يغادر مبللًا بدموعنا..
ماذا يعني كلّ ذلك؟!
ألا يوجد مجلس عزاء غدًا في بيتنا ولا في بيت جارنا؟
لكنّي أريد أن أبكي، شيءٌ ما يُحشرج في حلقي، يريد أن يخرج مع دمعي..
جثيتُ مستقبلا الأرض قابضًا عليها وبكيت
ثم صرخت
و زينب؟
«لستُ أنسی زينبًا تندب أخي من لليتامی
يا أخي استأسرونا جرجرونا في الأكام
ضيعوا فينا وصایامصطفی بدر التمام
يا أخي أين علي والدي صنو الإمام؟»

زينب الآن تسير على ناقةٍ هزيلة دون وطاء، تحت الشمس، بدون حسين ولا عباس، بعد أن  مرّت عليها تفاصيل يومٍ ليس كمثله يوم، يحدوها الشمر بن ذي الحوشن!
عينٌ على الأطفال والنساء وعينٌ على عليلها السجاد
كلّ ذلك يجري في مثل هذه الأيام، نحن نعيش حياتنا ونأكل وننام بهدوء، ونخالط أحبتنا وكانت زينبُ مسبيّة!

أيتها الرايات اصطفقي من جديد، ولينبعث حزنك لأجلها
يا عين ابكي بدل الدموع دما عليها
أيتها السرادقات عودي وارتفعي وذكّريني بخيامها
أيتها القدور أطعميني زادًا ثوابًا لها..

بدأت الشمس تغور في السماء كما غارت عيناي كمَدًا، وقبل أن تغرُب بدَت وكأنّ في جعبتها حكاية قصيرة، كأنها تقول:
الآن وأنا أغادر أبصاركم ويحلّ الليل، سيُخرجون رأس الإمام الحسين (عليه السلام) من صندوقٍ أعدّوه له، ويضعوه على رمحٍ طويل، وكلّما أخرجوه نظرتُ نظرة أخيرة الى زينب وأنا أنتظر أن تسقط مغشيًا عليها، لكنّي أراها ثابتة كثبوتي أنا والأرضُ تدور حولي لتُريكم من آيات الصبر والرضا كما أُريكم أياتِ الليل والنهار!
لا تسلني عن زينب كثيرًا، فالستر يُخجل الشمس من النظر إليه، واسأل القمر وعتمة الليل..
وداعًا.

جررتُ أذيالي الى بيتي وأنا أقبضُ على قلبي مردّدًا: زينب زينب..

نادتني أمّي لتناول العشاء فامتنعت
أردفَت: إنه زاد أبو عبد الله..
فذهبت لتناوله
جلستُ وأنا أمسكُ جهاز تحكم التلفزيون، أتجوّل بين القنوات التلفزيونية، انها تنقل بقايا شموع ليلة الوحشة قرب المخيم..
ثم انتقلت الى قناة أخرى..
كانت تبثّ قصيدة وقعت في قلبي موقع مواساة لي وعونًا لإستذكار مولاتي زينب، وقد وصلت الى هذه الأبيات:

«يا بو فاضل
أشتكيلك
والشمس صبغت عباتي
أشتكيلك
چنتوياكشحلاتي
أشتكيلك
روحي وردة وذبلتها
يابو فاضل».

دسستُ راسي بين كفي وشهقتُ باكيًا
أما انتحاب أمي فقد غطّى باقي كلمات القصيدة.

رفعتُ رأسي وتمتمت: هذا ما لم تخبرني به الشمس!

لم يمض من الوقت الى قليلًا، وعلى غير عادتي ودّعتُ أمّي باكرًا لأخلد الى النوم:
- أماه، سأحمل فراشي وأصعد الى السطح، سأنام هناك الليلة..

دُهِشت أمي من قراري هذا واكتفت بقولها: تصبح على خير يا نور عيني.
صعدتُ على عجالة، ووقفت أنظر الى السماء باحثًا عن القمر، سأستلقي الى الجهة التي يتربع فيها القمر..
إنه هناك، من دون كل الأشياء الباهتة كان يسطع بقوة..
وضعتُ فراشي تحته، نظرتُ إليه طويلًا وناجيته:
إيهٍ أيّها القمر، هل توهجك هذا لتنير ليالي زينب الحالكة؟ أنت وحدك أيها القمر من تحمل ذكريات لياليها، لقد رأيتَها وأنا أراك الآن فأرني مما رأيت من زينب، أودّ لو أجلس قبالتك وأتوسل إليك لتحكي لي ماذا رأيت وكيف قضيت سَحرك معها؟
كأن القمر خضع لي وتكلم، كأنه حينها أخبرني عنها وكيف تستريح من السير اذا جن الليل وتوقفت القافلة، عن هيبتها وهي جالسة، كيف تبدأ وترفع يديها الى السماء ومسبحتها المعلّقة في سبابتها تتدلى مثل دمعها وهي تتلو شكرها لله على جميل صنعه، وتدعو لمن سيحيي ذكرى أخيها ويقيم على قبره علمًا..
إنه عاجزٌ عن سرد حكاية زينب وهي تصلّي صلاة الليل، من أمام الرمح، لا يُجزعها منظر الرؤوس ولا السهام النابتة في الأعين، لا يُسخطها أنين الأطفال اليتامى ولا يسلب خشوعها نحول الأرامل والثواكل..
لقد أخبرني القمر بأنه تلألأ كي يزيل وحشتها ويخفف عنها دُجى الليل كلّما سمع عاشقا ينادي في الزمن الآتي: (ها يزينبوحّدچ والدنيا ليل)!
نعم، كنتُ أومضُ على استحياء فهل أنا قمرٌ والعباس قمر؟ وددتُ لو اختيرَ لي اسم آخر مُذ رحيل قمرها كي لا تتألم اذا ما ذكروني أمامها.
واذا ما اقترب الصباح أوصيتُ الشمس بزينب وأختفي، أربعون يومًا وأنا أحمل ذكرياتها، أخبِر كلّ من يراني أن يسألني عن زينب.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=158874
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 08 / 03
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 15