لم يكن الله سبحانه وتعالى يخلق عباده ويجعلهم في حيرة وضلالة وانحراف وتشتت، بل رحمهم وجعل لهم من عنده صراطاً مستقيماً، اختاره لهم ليتمسكوا به، ونوراً وهجاً يهتدون به في هذه الدنيا، ولكن العجب كل العجب كيف انحرفت هذه الأمة، وتركت إمامها ونورها، وتخبطت في الضلالة والتيه، وذاقت ألوان العذاب من ذلك اليوم الذي نقضت البيعة، وقدمت المؤخر، وأخرت الذي قدمه الله تعالى ورسوله (ص)..؟!
ولذلك تصدى امير المؤمنين (عليه السلام) بنفسه لبيان ما جرى على الأمة، ومن هو سبب انحرافها، ومن هو الذي يدعى منصب الولاية والامامة، وهو بعيد عنها كل البعد، ولا يمكن بأي حال من الأحوال ان يكون خليفة أو رئيساً يهتدى به، ولكن غصب حق الامام (عليه السلام) وجلس في مكانه احتيالاً وزوراً وطمعاً بالسلطة والرئاسة..!
فكان على أثره انحراف الأمة، وقال الامام (عليه السلام) في هذه الواقعة، كما يرويها الشريف الرضي (قدس سره) في نهج البلاغة: ((أما والله لقد تقمصها فلان، وإنه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقى اليّ الطير، فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء، او أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه, فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبا..))(1)، وهنا يشير الامام (عليه السلام) الى أمور مهمة، لها الدور في انحراف الأمة:
الامر الأول:
إن الامام (عليه السلام) يشير الى ان الخلافة هي له، وان فلاناً من الناس قد تقمص الخلافه زورا، والتقمص في اللغة هو انتحال صفة الغير، فإن الخليفة المزعوم لم يكن له علاقة بالخلافة لا من قريب ولا من بعيد، ولكنه طمعاً جاء اليها، ولذلك قال الامام (عليه السلام) انه متقمص وليس الخليفة الحقيقي؛ لأن الخلافة من الله تعالى، وقد نصب الله سبحانه تعالى وليه علي بن أبي طالب (عليه السلام) على لسان نبيه الأكرم(ص) وهو أهل لها.
الأمر الثاني:
إن الامام (عليه السلام) يبين في هذه الخطبة بأن غاصب الحق هو عالم بالغصبية ومتيقن بها، ومع ذلك لا يعطي للإمام (عليه السلام) حقه، ولذلك الامام (عليه السلام) جاء في بداية كلامه بيمين مؤكد، ليثبت به كلامه فقال (عليه السلام): والله.. ثم قال إنه ليعلم، فالحرف إن في اللغة العربية يفيد التوكيد، واللام كذلك.. وهذا اسلوب بلاغي لرد كل منكر لولاية علي (عليه السلام) ويقول انه الخلفية المزعوم لم يكن يدري ان الخلافة للإمام (عليه السلام)، فهو معذور، فجاء كلام الامام (عليه السلام) لرد هذا العذر الذي لا معنى له، بعد ان بين الامام (عليه السلام) انه يعلم بأني الخليفة الذي لا يمكن لأحد ان يأخذ مكاني الا ظلماً وعدواناً..!
الامر الثالث:
إن الامام (عليه السلام) ضرب مثلاً على مكانته من الخلافة، لا يمكن لأحد ان ينساه طول حياته، وهو القطب من الرحى؛ لأن الرحى كانت في زمانهم في بيوتهم يطحن بها الحنطة والشعير من أجل لقمة العيش التي يقتاتون عليها، فجاء الامام (عليه السلام) لهم بهذا المثل: انكم في بيوتكم لا تستطيعون أن تعيشوا من غير هذه الرحى، فكما ان الاكل يجعلكم تعيشون حياة طيبة، فإن الخلافة لا تتم إلا بي، وهذا ما يعرفه الخليفة الأول بكل وضوح، ولكنه تركه وراء ظهره، وجعل الخلافة والرئاسة له..!
الامر الرابع:
الامام (عليه السلام) يشير الى مكانته بين الناس، وانه في مكان عال عنهم، فهو ينحدر عنه السيل، ولا يستطيع ان يجرفه الى أهوائهم ورغباتهم وطمعهم في هذه الدنيا؛ لأنه محصن من قبل الله تعالى، فهو الولي والمعصوم الذي لا يخطئ ولا يشتبه ولا يسهو وهو ابن عم النبي (ص) وزوج ابنته (عليها السلام) وأعطاه الله تعالى من الفضل والمكانة مما تجعله لا يصل الى مكانته انسان في مشارق الارض ومغاربها إلا النبي الاعظم (ص)، وكان هو الامام من بعده والوصي، ولذلك قال مكنيا عن مكانته بأنه في مكان عال لا يصل اليه الطير على الرغم من كونه يطير، ويرتفع عن الارض، فالإمام (عليه السلام) في هذه المنزلة التي لا يصل اليها البشر من عامة الناس، فكيف جاء فلان وجعل نفسه بمنزلة الامام (عليه السلام) ونصب نفسه بهذا المكان مع انه ليس عنده أي شي من الخلافة تجعله يرتفع بها.
الامر الخامس:
ذكر الامام (عليه السلام) في هذه الخطبة أنه مظلوم مغصوب حقه، اعتدي على مكانته التي وضعه الله (عز وجل) فيها، ولكنه صبر على غصب حقه، وأخذ الخلافة من عنده، وهو ما كان يريد الا أن يضع الحق في موضعه، ويحارب الباطل ويمنعه عن المسلمين، ولكنهم عادوا أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو صابر لذلك البلاء الذي هو فيه، فترك الخلافة كما يقول (عليه السلام): "فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ ويَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ..".
فالإمام (عليه السلام) وجد نفسه بين أن يطالب بحقه بيد مقطوعة دون معين او ناصر، وقد ذهب عامة الناس وراء غاصب الخلافة، وبين أن يصبر على ما أصابه من مصيبة، ويكون صبره الى الله سبحانه، والى حماية الاسلام من الفتن الداخلية التي اشعل نارها الاول والثاني، وفعلاً اختار (سلام الله عليه) الصبر؛ لأنه أحجى واعقل في هذه الفترة، وقد صبر الامام (عليه السلام) وهو يقول عن صبره ويوصفه بأجمل بيان فيقول: "فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى".
واقصى ما يؤذي الانسان ان يكون في حلقه عظم لا يستطيع اخراجه، ولا إدخاله، ويكون في عينه شيء يؤذيه لا يستطيع اخراجه، وهذه هي حالة المولى أمير المؤمنين (عليه السلام).
ولذلك في رواية اخرى شكا همه الى الله تعالى مما فعلت به قريش: ((وقد قيل له أنك على هذا الامر لحريص فقال: (عليه السلام): بل أنتم والله لأحرص وأبعد وأنا أخص وأقرب، وإنما طلبت حقا لي، وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه.. ثم دعا الله فقال: اللهم اني استعديك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي))(2).
الأمر السادس:
إن الامام (عليه السلام) كانت الخلافة له من الله سبحانه وتعالى، وقد نص النبي (ص) في حديث الغدير المعروف، ولكنهم غصبوا حقه، وظل الامام (عليه السلام) متألماً لهذه الحالة، وهو يرى أمام عينيه ان الباطل يحكم والحق قد ازيح عن مكانه، فكانت النتيجة ان الأمة عاشت الانحراف التام، ومنذ ذلك اليوم والى يومنا هذا؛ لأنهم تعلقوا بالدنيا، ولم يسمعوا نداء الله سبحانه وتعالى: ((تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ))(3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة - الشريف الرضي (قدس سره): ص48/ الخطبة الشقشقية.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4103.
(3) (القصص/83).
|